Karam Shaar Advisory LTD

إدارة غابات سوريا وسط تحديات بيئية واجتماعية

لم يعد تدهور الغابات في سوريا مسألة ثانوية. فقد حوّلت سنوات الضغط على الأرض والوقود وسبل العيش مشكلة قابلة للإدارة إلى أزمة بنيوية تعيد تشكيل بيئة البلاد ومناخها واقتصادها وتزداد انعكاساتها على الاستقرار.

تُظهر بيانات «غلوبال فورست ووتش» أن سوريا فقدت 30 ألف هكتار من الغطاء الشجري بين عامي 2001 و2024، أي ما يعادل 29 في المئة من غطائها الشجري عام 2000، مع تسجيل أعلى الخسائر في المناطق الساحلية وسلاسل الجبال الغربية. ووجدت دراسة بحثية أن سوريا فقدت نحو 20 في المئة من غاباتها بين 2010 و 2019، معظمها في الشمال الغربي. وفصلت دراسة أخرى الخسائر بحسب المحافظات: فقد تراجع الغطاء الحرجي في اللاذقية بنحو 30–35 في المئة، وفي حماة بنحو 25–30 في المئة، وفي إدلب بنحو الربع.

كانت هذه الغابات تشكّل سابقًا حاجزًا طبيعيًا ضد الجفاف والإنجراف والانهيارات. أما اليوم،  فإن فقدانها يعرّض الأراضي الهشة لموجات الحرّ والفيضانات المفاجئة واتساع رقعة الجوع، وهي نتائج يزيدها تفاقمًا تغير المناخُ وضعف الحوكمة.  كما أن قدرة الحكومة على الاستجابة، أو عجزها عن ذلك، قد تسهم في تصاعد التوترات، بالنظر إلى التنوع الاجتماعي الكبير في المناطق الأكثر تضرراً وسنوات الصراع بين مجتمعاتها.

الغابات واقتصاد البقاء

على مدى أكثر من عقد، كان تدهور الغابات نتيجة للحاجة بقدر ما كان نتيجة للإهمال. فمع غياب مصادر طاقة موثوقة وارتفاع كلفة الوقود والكهرباء بشكل كبير، أصبح الحطب مصدر الطاقة البديل، كما أشرنا في القسم السابق، بات الحطب ملاذاً أخيراً للطاقة. بدأت الأسر بقطع الأشجار لتدفئة منازلها، ومع الوقت، تطور هذا السلوك من مجرد استراتيجية للتكيّف إلى شبكة اقتصاد غير رسمي تربط بين الأسر والناقلين والمجموعات المسلحة. وقد يتفاقم الوضع في الأشهر المقبلة، إذ رفعت الحكومة أسعار الكهرباء نحو ستين ضعفًا، فيما ارتفعت الفواتير الشهرية بين 200 و300 في المئة وفق تقديرات محلية.

وأصبح قطع الحطب واحدًا من مصادر الدخل القليلة المضمونة في بعض الأرياف. تتحرك يوميًا شاحنات الأخشاب من المنحدرات الحرجية نحو المدن. وتربط تجارة الفحم بين القاطعين والمصنّعين والتجّار، وهي سلسلة توريد غير منظّمة باتت جزءًا من اقتصاد البقاء. ويجري نقل الفحم من الساحل إلى الداخل، حيث يُتاجر به مقابل الغذاء والوقود ومواد البناء. وتفقد المناطق الزراعية قدرتها المستقبلية، إذ لا تسلم حتى الأشجار المثمرة والزيتون من القطع.

وأشار تقرير لمنظمة «باكس من أجل السلام» عام 2023 إلى أن غرب سوريا فقد أكثر من ثلث غطائه الحرجي بين 2018 و2020 بسبب القطع غير المنظم والحرائق المتكررة. وفي ريف حلب الشمالي، كانت المجموعات المسلحة مسؤولة بشكل رئيسي عن القطع غير القانوني الذي خفّض الغطاء الشجري بنحو 60 في المئة.

عام من الحرائق

رغم أن حرائق 2020 كانت الأكبر في تاريخ سوريا، فقد شهد صيف 2025 أيضاً حرائق واسعة أتلفت نحو 14 ألف هكتار من الغابات—وهي مساحة تفوق مدينة باريس.

ولإظهار حجم التغيرات، طورنا أداة تفاعلية تُبيّن كيف تغيّر الغطاء الأرضي في سوريا عبر الزمن، وتتيح اختيار أي منطقة واستكشاف التغيرات الشهرية أو السنوية في تسع فئات—مثل المياه، والأشجار، والمحاصيل، والمناطق المبنية—من خلال خريطة بسيطة ملوّنة  تعكس كل فئة.

جمع البيانات بواسطة شركة كرم شعار للاستشارات المحدودة. للتفاعل مع الخريطة، يمكن زيارة الرابط المخصص.





    العربيةالانكليزية

    لم تعد الحرائق أحداثًا منفصلة. فهي تمتد بسرعة عبر الأعشاب الجافة، والبساتين المهجورة، والمنحدرات الحادة، وغالبًا تصل إلى الأراضي الزراعية قبل وصول فرق الإطفاء. وتأتي هذه الحرائق في مناطق أضعفها التحطيب غير القانوني والجفاف، ما يجعلها شديدة القابلية للاشتعال. وتواجه فرق الدفاع المدني تضاريس وعرة، وطرقات غير مجهزة، ونقصًا دائمًا في المعدات. وينضم المزارعون غالبًا إلى الإطفاء باستخدام أدوات بسيطة، وأحيانًا يعملون في مناطق ملوثة بالألغام. وهذه الألغام والمخلّفات غير المنفجرة تتسبب بالحرائق وتنفجر بسببها، في علاقة دائرية خطرة تزداد سوءًا.

    المناخ عامل مضاعِف

    تواجه سوريا جفافاً متزايد الحدة والتكرار، في ظل دور متنامٍ لتغيّر المناخ يجعل هذه الظواهر أكثر احتمالاً وأطول أمداً. فقد وجدت إحدى الدراسات أن موجة الجفاف تمتد لثلاث سنوات أصبحت أكثر احتمالاً للحدوث بما يقارب 25 ضعفاً نتيجة تأثيرات تغيّر المناخ. كما بات الهطل المطري غير منتظم، ما قلّص مواسم الزراعة وجعل الغابات شديدة الجفاف وقابلة للاشتعال مع منتصف الصيف. أما عام 2025، فيصفه ممثل الفاو بأنه أحد أسوأ أعوام الجفاف التي شهدتها البلاد خلال ستين عاماً.

    ويضاعف تغير المناخ آثار إزالة الغابات: فقلّة الأشجار تعني ظلًا أقل ورطوبة أقل، ما يجعل التربة تجف بسرعة أكبر، ويغذي الحرائق الجديدة .وهو ما يؤدي إلى دورة تدهور مستمرة تجمع بين الجفاف وارتفاع الحرارة وتدهور الأراضي، فتفقد المنحدرات قدرتها على الصمود خلال فترة قصيرة.

    تداعيات زراعية

    زاد تدهور الغابات الضغط على الإنتاج الزراعي. فالغياب التدريجي للأشجار يترك التربة مكشوفة أمام الجفاف والفيضانات.

    وعلى المستوى الوطني، يُقدَّر إنتاج زيت الزيتون في موسم 2023–2024 بنحو 95 ألف طن—بانخفاض 24 في المئة عن إنتاج 125 ألف طن في 2022–2023. وازدادت المشكلة سوءًا في مناطق محددة. ففي سهل الغاب (حماة)، خفّضت الحرائق الإنتاج إلى أقل من النصف. وفي درعا، انخفض عدد أشجار الزيتون من ستة ملايين قبل 2011 إلى نحو ثلاثة ملايين في 2023، وتقلّصت المساحات المزروعة من 30 ألفًا إلى 22,900 هكتار.

    وتشير تقارير من ريف القنيطرة وغرب درعا إلى أن التوسع العسكري الإسرائيلي على طول المناطق الحدودية المحتلة أدى إلى تجريف بساتين الزيتون والغابات لصالح نقاط عسكرية ومسارات دوريات جديدة. وفي تشرين الأول 2025، وثقت ملاحظات ميدانية وصور أقمار صناعية وتغطية إقليمية عمليات تجريف واسعة في «محمية جباتا الخشب»، حيث أزيلت أشجار عمرها قرون لبناء بنية تحتية عسكرية. وتُظهر صور أقمار صناعية لتسلسل زمني بين 24 أيار و26 تشرين الأول 2025 في «حرش الشحّار» تصاعد عمليات التجريف، مع مقارنة بين صور 3 حزيران و26 تشرين الأول تبيّن حجم الغطاء الشجري المفقود. كما تُظهر مقارنة موازية لمحمية جبّاتا الخشب معدل تجريف أقل لكنه مستمر ومتزايد في تشرين الأول 2025. ويشير مزارعون إلى أن الوصول إلى البساتين القريبة بات مقيدًا منذ منتصف العام، مما يزيد الضغط على المجتمعات الجنوبية، التي تواجه أصلاً تدهوراً بيئياً متسارعاً.

    وفي الشمال الشرقي، على امتداد الفرات وفي سهول دير الزور شبه القاحلة، يتقدم التصحر مع انخفاض منسوب النهر وجفاف الآبار. وقُطعت الأشجار التي كانت تحمي ضفاف النهر للوقود أو التوسع الزراعي، ما جعل التربة عرضة للرياح والتعرية. وتُظهر صور الأقمار الصناعية تدهورًا واسعًا في دير الزور والرقة، مع تخلي كثير من المزارع وغياب تجدد المياه الجوفية.

    إعادة التشجير والاستجابة المحلية

    رغم حجم الخسائر، ظهرت مبادرات محلية محدودة للتعافي. أطلق متطوعون قرب بحيرة ميدانكي (عفرين) حملة في تشرين الأول 2025 لزراعة 20 ألف شجرة على التلال الجرداء المحيطة بالخزان، بدعم من مجالس محلية ومجموعات أهلية.

    أعلنت وزارة الزراعة خططًا لإعادة تشجير 5,000 هكتار في اللاذقية وطرطوس وحماة لموسم 2025–2026، وهي مساحة تعادل أكثر من ثلث المناطق التي احترقت هذا العام. لكن التقدم كان بطيء بسبب نقص التمويل، وتكرار الحرائق، وضعف القدرات الفنية. وفي حماة، يخطط المسؤولون لإعادة تأهيل طويلة الأمد لمنحدرات وبساتين سهل الغاب، مع استبدال الأشجار المدمرة وترميم شبكات الري، لكن الإمكانات المتاحة أقل بكثير من الحاجة.

    تصاعد التوترات وسياسات الإهمال

    مع تراجع الغابات، يتراجع أيضًا الشعور بقدرة الدولة على حماية الأرض. والمناطق التي تشهد أكبر خسائر—كاللاذقية وحماة وإدلب والحزام الجبلي—هي أيضًا مناطق انقسامات قديمة وصراعات طويلة.

    وتشكل قناعة بأن الحكومة تستجيب ببطء للحرائق أو تمنح الأولوية لمناطق معينة مصدرًا متزايدًا لعدم الثقة. واتهم سكان قرى قرب صلنفة وجبل التركمان مسؤولين محليين بتجاهل إنذارات مبكرة أو تحويل معدات الإطفاء إلى غابات حكومية “محمية” بينما كانت أراضٍ مشتركة تحترق.

    أصبح الضغط البيئي محورًا جديدًا لعدم الاستقرار. فالتنافس على ما تبقى من الحطب والمياه والأراضي الصالحة للزراعة يتقاطع مع الانقسامات القديمة بين المجتمعات الموالية والمهجرة، خصوصًا حين يعني فقدان الغابات فقدان مصدر رزق مباشر. ومن دون إجراءات وقائية وتعويضات فعالة، قد يتحول الشعور بالتخلي إلى اضطرابات محلية.

    نحو حماية وتجديد

    التعامل مع تقلص الغابات يتطلب أكثر من تشجير موسمي. لا بد من تطبيق قوانين حماية الغابات، وتوفير بدائل طاقة ميسورة، وتوسيع قدرات الإطفاء عبر تحسين طرق الوصول، وتطوير وحدات إطفاء جوية، واستخدام أنظمة إنذار مبكر. كما يجب أن تكون جهود إعادة التشجير ملائمة للمناخ، عبر استخدام الأنواع المحلية المقاومة للجفاف، وحصد مياه الأمطار، وإنشاء خطوط عازلة تديرها المجتمعات.

    لقد أصبح تراجع الغابات أزمة بيئية واختبارًا لقدرة الدولة على الإدارة. فأصبحت حماية البيئة وتقليل مخاطر الكوارث جزءًا من عملية التعافي السياسي. وإذا لم تستطع الدولة حماية الأرض، قد ترى المجتمعات في استمرار اختفاء الغابات دليلًا إضافيًا على الإهمال والفساد. أما الاستجابة الفعالة، فقد تفتح نافذة لإعادة بناء الثقة بين الناس والمؤسسات—وبين المجتمعات التي فرقتها الحرب.

     

     
    Scroll to Top

    subscribe to Newsletter





      العربيةالانكليزية