Karam Shaar Advisory LTD

من الانكماش السعري إلى عدم اليقين

أشرنا في عدد نيسان من سوريا بالأرقام إلى أن الاقتصاد دخل مرحلة نادرة من  الانكماش السعري (انخفاض الأسعار) بعد سنوات من طباعة النقود في ظل انكماش اقتصادي، وهي تركيبة دفعت التضخم مراراً إلى مستويات من ثلاث خانات تحت حكم الأسد. وبيّنا أن الانهيار المفاجئ للنظام القديم، إلى جانب تعديل الرسوم الجمركية على الواردات، وإزالة الحواجز التجارية الداخلية، وشح السيولة، وتحسن المزاج الاقتصادي العام المدفوع جزئياً بتخفيف العقوبات الغربية، أدّى إلى فترة بدأ فيها مستوى الأسعار بالانخفاض بالليرة السورية، وتحسن سعر الصرف بما خفّض كلفة الواردات. كما حذّرنا من أن هذا الانخفاض هش لأنه جاء أساساً نتيجة صدمات لمرة واحدة، لا نتيجة تحسن حقيقي في الأسس الاقتصادية مثل ميزان المدفوعات أو وضع المالية العامة. بعد ستة أشهر، تبدو تلك التحذيرات دقيقة.

متابعة حركة الأسعار

أصبح تتبع التضخم في سوريا أكثر صعوبة خلال الأشهر الستة الماضية، إذ توقّف مصرف سوريا المركزي بشكل غير مبرّر عن نشر بيانات أسعار المستهلك الشهرية. أظهرت أحدث الأرقام في شباط 2025 فترة من انخفاض الأسعار بشكل حاد: بلغ المعدل السنوي سالب 15.2 في المئة مقارنة بتضخم بلغ 109.5 في المئة في شباط 2024، بينما تراجعت الأسعار 8 في المئة على أساس شهري بعد انخفاض بنحو 9.3 في المئة في كانون الثاني. ومنذ ذلك الحين، لم يصدر المصرف أي بيانات جديدة، ما يترك فجوة معرفية كبيرة حول واحد من أهم المؤشرات الاقتصادية.

في غياب البيانات الرسمية، تقدّم تقديرات جديدة لبرنامج الأغذية العالمي صورة أوضح عن اتجاهات الأسعار. تُظهر أرقام البرنامج أن “سلة الحد الأدنى للإنفاق”—وهي مؤشر تقريبي لكلفة المعيشة للأسرة المتوسطة—ارتفعت في آب 2025، وهي أول زيادة شهرية منذ بداية العام، مع استمرار الارتفاع في أيلول. وبعد أن تراجعت من 3 ملايين ليرة سورية في كانون الأول 2024 إلى 1.9 مليون ليرة في تموز، ارتفعت السلة 6% إلى 2 مليون ليرة في آب، ثم 7 % إلى 2.2 مليون ليرة في أيلول. يشير هذا النمط إلى أن مرحلة انخفاض الأسعار ربما وصلت إلى نهايتها. ويعود هذا الارتفاع إلى زيادة أسعار البطاطا والخضار والبيض والزيت النباتي، نتيجة شح العرض في ظل جفاف واسع وضعف سعر الصرف.





    العربيةالانكليزية

    ورغم أن معظم مكونات السلة تُنتج محلياً وتتأثر بالظروف الداخلية، تعتمد بعض السلع بشكل غير مباشر على مدخلات مستوردة مثل الوقود والأسمدة، ما يجعل تقلبات سعر الصرف تؤثر على أسعارها بعد فترة زمنية. كما أن القيمة المحسوبة بالدولار مهمة للسوريين المعتمدين على الحوالات، إذ تراجعت قدرتهم الشرائية الفعلية مع ارتفاع قيمة الليرة الذي خفّض القيمة المحلية للتحويلات بالعملة الأجنبية.

    أدّى انخفاض تكاليف السلة سابقاً وزيادة الأجور في حزيران 2025 إلى تحسن في القوة الشرائية، رغم أن أوضاع الأسر ما زالت صعبة. وبحلول أيلول 2025، أصبح الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص 750 ألف ليرة يغطي نحو 34 في المئة من السلة، بعدما كان يغطي 10 في المئة فقط قبل الزيادة.

    هل يقترب التضخم من العودة؟

    تشير بيانات أيلول إلى أن مرحلة انخفاض الأسعار ربما انتهت. وتتحرك في الخفاء مجموعة من العوامل—ارتفاع الأجور، تقليص الدعم، ضغوط الموازنة، وعودة تدريجية للطلب المحلي مع عودة مليون لاجئ توسّع الفجوة بين الطلب والعرض المتاح. حتى الآن، لم تتحول زيادة الأجور إلى ضغوط تضخمية كبيرة لأنها جاءت في وقت كانت فيه السيولة في السوق شديدة الانخفاض. لكن إذا تحسّنت السيولة واستأنفت الأسر استهلاكاً مؤجلاً، فقد يبدأ الطلب في تجاوز الإنتاج المحلي المحدود، ما يدفع الأسعار للارتفاع. كما أن أي زيادة في الإنفاق الحكومي أو العودة إلى طباعة النقود قد تضيف مزيداً من الضغوط التضخمية.

    يبقى تحسن سعر صرف الليرة، الذي كان عاملاً رئيسياً في خفض أسعار الواردات، هشاً. ويبدو استقراره مرتبطاً بقيود السيولة وثقة السوق أكثر من اعتماده على تحسن حقيقي في الظروف الاقتصادية. وإذا خفّف المصرف المركزي ضوابطه، أو تراجعت التدفقات المالية من الخارج، أو تباطأ التعافي الاقتصادي، فقد يتراجع سعر الصرف سريعاً، ما يمحو المكاسب التي تحققت في الأسعار.

    ويضيف الوضع المالي للحكومة عامل مخاطرة إضافياً، فقد صرّح مسؤولون بأن دمشق لن تلجأ إلى الاقتراض أو تمويل العجز عبر طباعة النقود، ما يثير أسئلة حول كيفية تمويل الرواتب المستقبلية والواردات الأساسية. وكما ذكّرنا في عدد سابق من سوريا بالأرقام، من المرجح أن تستمر الضغوط على الموازنة في ظل الإصلاح الضريبي المقترح، الذي يُتوقع أن يحقق إيرادات محدودة.

    وعند النظر إلى المستقبل، يُرجَّح أن تسهم عوامل إضافية في دفع الأسعار صعوداً مع إعادة انفتاح الاقتصاد تدريجياً. فالزيادة المتوقعة في أعداد السياح وزوار الشتات والمستثمرين الجدد ستعزز الطلب في المدن الحضرية والمناطق الساحلية، بما يتجاوز العرض القائم والبنية التحتية المتاحة في كثير من الأحيان. وقد ارتفعت الإيجارات بالفعل في عدة مناطق. وفي الوقت نفسه، يؤدي استمرار رفع الدعم، خصوصاً عن الكهرباء، إلى زيادة تكاليف الإنتاج والنقل، ما يعزز التضخم الناتج عن ارتفاع الكلفة.

    ويفاقم جفاف 2025—وهو من الأسوأ منذ عقود—هذه الضغوط، بعدما انخفض إنتاج القمح المحلي إلى نحو 900 ألف طن متري، بينما تبلغ الاحتياجات نحو 2.55 مليون طن. مما يدفع الحكومة  إلى  الاعتماد على الواردات بشكل أكبر، فيمايؤدي نقصها إلى ارتفاع أكبر في الأسعار.

    في ظل هذه التطورات، يصبح غياب بيانات شاملة يتم تحديثها بشكل دوري عن التضخم مصدر قلق كبير. فباستثناء أسعار الغذاء، هناك حاجة ملحّة لنشر منتظم وشفاف لبيانات أسعار المستهلك والمؤشرات المالية والنقدية، بما يسمح بصياغة سياسات تستند إلى الأدلة.

     
    Scroll to Top

    subscribe to Newsletter





      العربيةالانكليزية