تهديد المخلفات الحرب غير المتفجرة: الحرب الخفية لسوريا مع الألغام والمتفجرات
منذ سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، واجهت سوريا خلال المرحلة الانتقالية مزيجاً صعباً من التحديات الداخلية والخارجية: انهيار اقتصادي، عقوبات، بنية تحتية مدمرة، توترات طائفية، انقسامات سياسية، إرهاب، وضغوط إقليمية. ستستغرق هذه العقبات سنوات للتغلب عليها، لكن مع حكم مستقر ودعم دولي يمكن تحقيق تقدم تدريجي.
أحد التحديات التي لم تحظ بالتغطية الكافية، وتهدد بالوقت نفسه التعافي المحلي، مخلفات الحرب غير المنفجرة (UXO). غالباً ما تواجه البيئات بعد الحروب ألغاماً أرضية وقنابل عنقودية وذخائر غير منفجرة جوية أو أرضية، لكن يُعتقد أن حجم هذه المخلفات في سوريا غير مسبوق ويفوق المستويات المسجلة في أماكن أخرى.
وفق بيانات جمعتها Syria Weekly وحللتها “سوريا بالأرقام”، شهدت البلاد نحو 650 حادثة انفجار أحد مخلفات الحرب غير المتفجرة في الأشهر التسعة الأولى من 2025، أسفرت عن أكثر من 570 وفاة ونحو 850 إصابة. ويُرجَّح أن تكون الحصيلة الحقيقية أعلى بسبب ضعف التوثيق المحلي والتحديات الهيكلية في الريف حيث تنتشر الحوادث بشكل أكبر.
تصاعدت الحوادث بشكل ملحوظ منذ سقوط الأسد، مع عودة النازحين والمزارعين إلى الأراضي المهجورة. تشير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن 3,471 شخصاً قُتلوا بمخلفات الحرب بين 2011 و2024—بمعدل سنوي قدره 267—ما يعني أن وفيات 2025 في طريقها لتكون أعلى بنحو ثلاثة أضعاف ذلك المعدل.
خريطة حرارية لضحايا الذخائر غير المنفجرة تشرين الثاني 2024 أيلول 2025
للمقارنة، سجّل تقرير Landmine Monitor الصادر عن” Handicap International” في 2023 نحو 5,757 ضحية (قتلى ومصابين) من مخلفات الحرب في 55 دولة. بالمعدلات الحالية، قد تمثل الحوادث في سوريا عام 2025 أكثر من ثلث إجمالي الحوادث حول العالم. وصفت المجموعة الاستشارية للألغام “MAG” سوريا “أن فيها أعظم أثرٍ إنساني للألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة من أي مكان في العالم”. وأشارت منظمة دولية متخصصة إلى أن إزالة مخلفات الحرب في سوريا قد تتطلب من 25 إلى 40 سنة من العمل المتواصل بالموارد الحالية.
وفق بيانات Syria Weekly لعام 2025، أكثر المناطق تضرراً في سوريا هي الشمال الغربي، درعا، ريف حمص، وممر نهر الفرات في دير الزور. بعد أشهر من أعمال إزالة مكثفة نفذتها فرق وزارة الدفاع، قُدّر وجود 350 ألف لغم حول تدمر (أُزيل منها 25 ألفاً حتى أواخر آب 2025)، و316 ألف لغم في دير الزور (أُزيل منها 32 ألفاً حتى أوائل أيلول 2025). للمقارنة، يشير مركز كارتر”Carter Center” إلى أن إزالة 86,000 لغم أرضي في موزمبيق استغرق 23 عاماً، واستغرق إزالة 11,540 لغماً في العراق أربع سنوات.
يُعيق تهديد الذخائر غير المتفجرة التعافي الريفي والوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والسلع الرئيسية. يتركز الضرر الأكبر في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، و الأراضي الزراعية، أو القرى التي هُجر أهلها ودُمرت خلال الحرب. مع عودة الأهالي إلى تلك المناطق، يجدون أراضي ملغمة تقوّض إعادة الإعمار و التوطين.
يدفع الفقر كثيرين لتجاهل التحذيرات بحثاً عن سبل العيش من الزراعة إلى جمع الخردة، وبعضهم يحاول إزالة الألغام بطرق بدائية محفوفة بالمخاطر.
الأطفال هم الأكثر تضرراً، إذ يشكلون ما لا يقل عن 33% من الضحايا وفق بيانات Syria Weekly، وتقدّر منظمة “أطباء بلا حدود” أن ما يصل إلى 40% من ضحايا الذخائر غير المتفجرة في سوريا عام 2025 هم أطفال.
إضافة إلى عرقلة التعافي، يزيد تهديد الذخائر غير المتفجرة من أزمة القطاع الصحي في سوريا، إذ ينتج مئات الإصابات البالغة التي تحتاج رعاية طويلة الأمد وعلاجاً طبيعياً ودعماً نفسياً. يذكر العاملون الصحيون أن 66% من الضحايا يعانون من إصابات تهدد حياتهم أو إصابات خطيرة، وأن نحو 25% منهم يحتاجون إلى بتر أطراف.
لمواجهة تهديد الذخائر غير المتفجرة، كثفت الحكومة السورية والمنظمات غير الحكومية حملات التوعية العامة. ويبدو أن تأثير هذه الحملات بدأ يظهر: الحوادث في تراجع تدريجي، وانخفضت نسبة الوفيات من 32% من الإجمالي الوطني في الربع الأول 2025 إلى 16% في الربع الثالث. وقد يعكس الانخفاض أيضاً تراجع أعداد العائدين مقارنة بالاندفاع الكبير عقب سقوط الأسد أواخر 2024.
تساعد التوعية في خفض الحوادث، ولكن معالجة التحدي الأكبر للذخائر غير المنفجرة، تتطلب جهداً كبيراً يجمع بين الموارد المحلية المحدودة والدعم الدولي.
بالنسبة للحكومة السورية، يجب إعطاء الأولوية للتنسيق مع دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS). كما ينبغي عقد شراكات مع منظمات مثل MAG International وHALO Trust، مع منحها تسجيل وترخيص وحرية الوصول على مستوى البلاد من دون تأخير.
ولتأطير الجهود الدولية، على الحكومة إنشاء كيان وطني واحد لإدارة الاستجابة للذخائر غير المتفجرة، يجمع الموارد الموزعة حالياً بين وزارات الدفاع والداخلية والطوارئ والدفاع المدني. التخطيط لذلك جار بالفعل، وناقشه وزير الطوارئ مع الرئيس التنفيذي لـ HALO Trust جيمس كوان في دمشق في 13 أيلول. يجب أن يتولى هذا الكيان قيادة المسوح الوطنية ورسم الخرائط، وإتاحتها للعامة عبر تطبيق إلكتروني. ويجب أن تبدأ المراحل الأولى بالأماكن الأكثر عرضة لعودة الأهالي والمزارعين وغيرهم من المدنيين.
إلى جانب التوعية، يجب أن تُنشأ شبكة وطنية تابعة لهذا الكيان على مستويات البلدية والمناطق والمحافظات لجمع بيانات UXO، والتواصل مع المجتمعات، وتنسيق الإزالة والحفاظ على تواصل دائم مع المدارس لتعليم الأطفال حول مخاطر UXO.
في مقابلة مع “سوريا بالأرقام”، قال وزير الطوارئ والاستجابة للكوارث رائد الصالح، إن الحكومة بدأت مسوحاً محلية، وأطلقت حملات توعية للأطفال وللعامة، وتعمل على تأسيس “المركز الوطني للألغام”. وأوضح أن هذا الكيان سيتطور وينفذ استراتيجيات لإزالة مخلفات الحرب والألغام بالتنسيق مع السلطات المحلية والمنظمات الدولية لحماية المدنيين واستقرار سوريا. وأكد الحاجة الملحّة إلى دعم دولي يشمل “تمويلاً مستداماً ودعماً تقنياً”، و”تكنولوجيا ومعدات حديثة”، و”تدريباً وبناء قدرات”، و”برامج مساعدة للضحايا”.
دولياً، على الأمم المتحدة والدول المانحة إدراك الأهمية الاستراتيجية لتحدي الذخائر غير المتفجرة UXO، وتأثيره على التعافي. ثمة حاجة لتمويل أكبر للتدريب المحلي، وبناء القدرات، وتوسيع عمليات إزالة الألغام. يجب على الأمم المتحدة تطوير خطة استراتيجية بالتعاون مع الكيان الوطني المقترح لضمان جهد مستدام متعدد السنوات. كما ينبغي أن يدعم المانحون القطاع الصحي لتلبية احتياجات ضحايا UXO طويلة الأمد.
