مساهمة خارجية: الدكتور لورينزو ترومبيتا، محلل بارز ومؤلف متخصص في التاريخ السوري المعاصر
سوريا ولبنان: الحدود كمحفزات للتنمية وخفض التصعيد في المشرق
لقد أدى الانهيار السريع لهيمنة نظام الأسد التي دامت نصف قرن في سوريا، إلى جانب تراجع نفوذ حزب الله في لبنان، إلى خلق فرصة استراتيجية نادرة للبلدين. وإذا أُديرت هذه اللحظة ببراغماتية، يمكن لدمشق وبيروت إعادة صياغة العلاقات الثنائية على أساس الندية والسيادة والتقاسم الفعّال للموارد العابرة للحدود، بما يعزز تنمية اجتماعية واقتصادية مشتركة. أما إذا أُهدرت، فستستمر دوامات التشظي والاقتصادات العنفية والإجرامية.
ترك قرن من التدخلات الخارجية، والانقسامات المجتمعية، وإعادة إنتاج السلطوية، والارتدادات العنيفة، بلاد الشام مجزأة ومستنزفة اقتصادياً. تنشط الشبكات الإجرامية المحلية والإقليمية—من تجارة المخدرات وتهريب السلاح والبشر—بالتوازي والتنافس مع الجهات الرسمية على جانبي الحدود، ما عمّق التهميش والقمع وأجج التطرف والنزوح والاقتصادات غير المشروعة، لتنتج تداعيات تمتد إلى العنف والهجرة غير النظامية والفساد واللااستقرار في كامل المشرق.
رغم هذه الصورة القاتمة، شهد أواخر صيف 2025 تحولاً حذراً لكن ملموساً. بعد مرحلة طويلة من الترقب، أعلنت دمشق وبيروت خطاباً جديداً يقوم على الندية. أكد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع رغبته في فتح صفحة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل، وردد نائب رئيس الوزراء اللبناني طارق متري، المكلّف بإدارة العلاقات مع دمشق، الفكرة نفسها قائلاً إن العلاقات السورية–اللبنانية دخلت مرحلة جديدة وتتجه نحو فصل مختلف. في هذا المناخ، اجتمعت لجان فنية في العاصمتين لمعالجة ملفين عالقين منذ زمن طويل: إدارة الحدود ومصير آلاف المعتقلين السوريين في لبنان. في المقابل، أُوكل موضوع اللاجئين السوريين في لبنان إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة، اللتين تقودان منذ أوائل الصيف مبادرة للعودة الطوعية التدريجية مع حوافز مالية وإلغاء الغرامات عن المخالفين للإقامة.
ومع ذلك، ظل التشكيك قائماً في العاصمتين. يخشى اللبنانيون من تداعيات نفوذ هيئة تحرير الشام في دمشق وما قد تفرضه على المجتمعات السنية في لبنان. في الوقت نفسه، تركت تجربة السوريين مع حزب الله—الداعم الرئيسي للنظام المخلوع—مرارة عميقة وشكوكاً واسعة، ويشك كثيرون في قدرة الشرع على النأي بنفسه فعلاً عن الحركة وبناء ثقة حقيقية مع بيروت.
أظهرت الاشتباكات الحدودية كيف أن التوترات الأمنية تضر مباشرة بالاقتصادات المحلية، وتزيد المظالم، وتقوض الثقة في الجانبين. وقد أبرزت اتفاقية الحدود في آذار 2025 مشكلتين مزمنتين:
- التدخل الخارجي: لا تزال قوى إقليمية ودولية—من السعودية وإيران إلى الولايات المتحدة وتركيا وروسيا—تحدد مسار سياسات الحدود، غالباً بارتباط مع قضية حزب الله. هذا التدخل له جذور تاريخية عميقة من الإدارة الاستعمارية إلى الوسطاء المعاصرين، ولا يزال يملي شروط إدارة الحدود.
- المقاربة الأمنية الضيقة: ما زالت الحدود تُعامل كمنطقة عسكرية محضة، إذ دعمت القوى الغربية منذ 2005 تعزيز المراقبة وأبراج الرصد وعمليات مكافحة التهريب. ومع ذلك، تبقى القوات اللبنانية مرهقة، والقوات السورية تكافح للسيطرة، ويكشف العنف الطائفي والنزوح المتكرر حدود الاعتماد على الإجراءات الأمنية وحدها لإدارة حدود متجذرة اجتماعياً واقتصادياً.
الحاجة قائمة لاستراتيجية اقتصادية–اجتماعية شاملة تعيد النظر في الحدود بوصفها ممرات تنموية وليست مناطق أمنية مغلقة. يعتمد لبنان على الأسواق السورية وطرقها وقدراتها الإنتاجية لتصدير المنتجات الزراعية إلى الخليج، لكن هذه التدفقات تهيمن عليها تجارة الكبتاغون وغيرها من الممنوعات. حتى تهريب السلع المشروعة يتطلب إصلاح إدارة السلع الأساسية وإزالة فروق الأسعار التي تغذي الفساد. ورغم أن دمشق بدأت فعلاً بتقليص الدعم عن السلع الأساسية، تبقى الثقة بالسلطات ضعيفة، ويستمر كثيرون في تجاوز القنوات الرسمية.
من خلال تجاوز المقاربة الأمنية واعتماد التنمية الاقتصادية، يمكن تحويل هذه المناطق الحدودية جذرياً. الشبكات التي تزدهر اليوم عبر النشاط غير المشروع يمكن إعادة توجيهها نحو التجارة القانونية، مع إحياء ممرات مثل طرابلس–مطار القليعات–وادي العاصي–حمص، أو محور دمشق–بيروت عبر الزبداني وسرغايا والبقاع. هذه المسارات، وإن كانت خامدة الآن، تحمل قدرة على تعطيل التهريب، وتثبيت التجارة الشرعية، وجذب الاستثمار، وتعزيز ثقة القطاع الخاص. وقد أشار الشرع في آب 2025 إلى أن تطوير البنية التحتية المشتركة وإدارة الموارد العابرة للحدود يفتح طريقاً للاستقرار والتعاون بين سوريا ولبنان.
مع ذلك، يبقى الحذر واجباً. إذا نجح البلدان في تحويل هذه الفرصة السياسية النادرة إلى تعاون مؤسسي قائم على الاحترام المتبادل ومصحوب بإحياء اقتصادي شامل وإجراءات أمنية موثوقة، فسيضعفان الاقتصادات الإجرامية والسياسات الهوياتية التي غذّت عقوداً من النزاع. أما إذا فشلا، فستعود أنماط الافتراس والتشظي القديمة، وستدفع منطقة شرق المتوسط ثمنها.
في هذا المشهد الدقيق، لا تقل مسؤولية الأطراف الخارجية أهمية. فالولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، المتجذرة تاريخياً في المشهد اللبناني، استعادت مصالحها في سوريا وتتحرك اليوم على جبهات متعددة في البلدين. وإذا وُجّه تدخلها بعناية لدعم ترتيبات أمنية موثوقة وإنعاش اقتصادي شامل، فستخدم مصالحها الاستراتيجية وتُسهم في بناء نظام إقليمي أكثر صموداً.
سوريا ولبنان: الحدود كمحفزات للتنمية وخفض التصعيد في المشرق