خطوات نحو التعافي الاقتصادي: مذكرات تفاهم استثمارية في سوريا
في مرحلة ما بعد الأسد، تشهد سوريا موجة ملحوظة من الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، تجلت في الإعلان عن سلسلة من مذكرات التفاهم مع شركاء دوليين. ورغم أن الأرقام المعلنة تعكس أهدافاً طموحة للغاية، فإن أسئلة مهمة تطرح نفسها حول الآليات العملية للتنفيذ، والأطر القانونية الناظمة، والعوامل التي ستحدد ما إذا كانت هذه الاتفاقيات ستبقى عند حدود النوايا أم ستتحول إلى مشاريع ملموسة على أرض الواقع.
تتناول هذه المقالة مجموعتين من مذكرات التفاهم الاستثمارية: الأولى تضم 20 مذكرة موقعة مع جهات دولية مختلفة، تم تحليلها فراداً من حيث القيمة، والقطاع، والجغرافيا، والجدول الزمني؛ والثانية تضم 47 اتفاقاً أولياً ومذكرة تفاهم وُقِّعت دفعة واحدة خلال “المنتدى الاستثماري السوري-السعودي” في يوليو/تموز 2025، بقيمة إجمالية بلغت 6.4 مليار دولار أميركي. ونظراً لغياب التفاصيل الخاصة بالمشاريع، تم تقييم المجموعة الثانية من حيث القطاع والقيمة الإجمالية فقط.
المجموعة الأولى: عشرون مذكرة تفاهم — واقع الاتفاقيات في مرحلة ما بعد الحرب
منذ سقوط نظام الأسد، رصدنا عشرين مذكرة تفاهم أُعلن عنها بين مؤسسات حكومية سورية وشركات أجنبية. تم الإفصاح عن قيم 15 منها فقط، بمجموع بلغ 19 مليار دولار أميركي، في حين لم تُذكر تفاصيل حول المذكرات الخمس الأخرى. وتشمل هذه الاتفاقيات طيفاً واسعاً من القطاعات، مع تركيز ملحوظ على العقارات والإنشاءات.
جغرافياً، تتوزع مذكرات التفاهم عبر عدة محافظات، مع تركّز أساسي في دمشق وريفها. واللافت أن محافظة إدلب—التي كانت سابقاً المعقل الرئيسي للحكومة السورية الحالية—حصلت على مذكرة تفاهم واحدة فقط. ويمكن قراءة ذلك إما كمؤشر إيجابي على أن الحكومة لا تعتزم التمييز ضد المناطق التي كانت متنازعاً عليها سابقاً، أو كإشارة إلى رغبتها في الإبقاء على مستقبل التنمية في إدلب تحت سيطرتها المباشرة، وتقليص الانخراط الخارجي في هذه المرحلة.
كما تُظهر المعلومات المتاحة أن العديد من الشركات الأجنبية الموقّعة حديثة التأسيس، ما يثير تساؤلات حول قدراتها الفنية والمالية لتنفيذ مشاريع بهذا الحجم. ورغم أن الأطراف الموقّعة غالباً ما تسعى إلى إظهار أعلى درجات المهنية عند توقيع المذكرات—بدافع المصلحة في تضخيم قدراتها—فإن ذلك قد يخلق انطباعاً بالجدية لا يعكس بالضرورة إمكانيات التنفيذ الفعلية. وسيتم تناول هذه الشركات في العدد المقبل من سوريا بالأرقام عبر خريطة تفاعلية توضّح هوية الموقّعين وصلاتهم المؤسسية.
المجموعة الثانية: اتفاقيات المنتدى الاستثماري السوري-السعودي
في 24 يوليو/تموز 2025، انطلق المنتدى الاستثماري السوري-السعودي في دمشق، بمشاركة وفد سعودي رفيع المستوى برئاسة وزير الاستثمار خالد الفالح. خلال المنتدى، وُقِّعت 47 مذكرة تفاهم واتفاقية أولية بين عدد من المؤسسات الحكومية السورية وشركات سعودية، بقيمة إجمالية بلغت 6.4 مليار دولار أميركي. ونظراً لعدم التمييز في الإعلان بين الاتفاقيات الأولية ومذكرات التفاهم، فقد اعتبرنا جميعها مذكرات تفاهم.
شملت الاتفاقيات قطاعات البنية التحتية والتطوير العقاري، والتي استحوذت على الحصة الأكبر من إجمالي الاستثمارات، إلى جانب الاتصالات وتقنية المعلومات، والصناعة، والسياحة، والصحة. غير أن غياب الإفصاح عن طبيعة المشاريع وتوزيعها الجغرافي حال دون التحقق المستقل من نطاقها المكاني.
التنفيذ والمعوقات
يُظهر تتبّع مذكرات التفاهم—بما فيها تلك الموقّعة خلال المنتدى الاستثماري السوري السعودي—أن معدل التنفيذ الفعلي كان محدوداً للغاية. إذ لم يبدأ التنفيذ العلني سوى في مشروع واحد فقط: إعادة تأهيل وتطوير خطوط الإنتاج في معمل الفيحاء للإسمنت.
ويُعزى ضعف التنفيذ جزئياً إلى قصر المدة الزمنية منذ توقيع الاتفاقية الأولى (أربعة أشهر فقط منذ مذكرة التفاهم الأولى مع شركة فيدي كونتراكتنغ الصينية)، خاصة أن الدفعة الأكبر من المذكرات وُقّعت قبل أقل من شهر. إلا أن الحالة السورية تثير تساؤلات أعمق حول ما إذا كانت مثل هذه الإعلانات قابلة للتحوّل إلى واقع عملي.
ولفهم الشروط التي تمكّن مذكرات التفاهم من التحوّل إلى استثمارات فعلية، من المفيد مقارنة التجربة السورية بتجارب دول مجاورة، حيث جرى الإعلان عن اتفاقيات مشابهة. مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مصر عام 2015 يقدم مثالاً مقارناً.
في ذلك المؤتمر، أعلنت مصر عن اتفاقيات بقيمة 72.5 مليار دولار، شملت 36.2 مليار دولار كاستثمارات مباشرة (عقود نهائية)، و29 مليار دولار كمذكرات تفاهم—منها 12.7 مليار في قطاعي العقارات والسياحة، و16.3 مليار في توليد الكهرباء—إضافة إلى 3.3 مليار دولار كدعم نقدي من دول الخليج. المدهش أن أكثر من نصف مذكرات التفاهم الموقعة تحولت إلى مشاريع حقيقية على الأرض وذلك خلال خمسة أشهر فقط، يعزى ذلك للاستقرار السياسي، والدعم المالي المباشر المقدم من دول الخليج، ووجود إطار مؤسسي واضح للتنفيذ.
أما في سوريا، العقبات البنيوية أمام التنفيذ لا تزال كبيرة. إذ ما زالت المخاطر الأمنية حاضرة في عدة مناطق، مع استمرار اشتباكات متفرقة في الغرب والشرق والجنوب، إلى جانب تهديد إرهابي مستمر وإن كان آخذًا في التراجع. مثل هذا الوضع يردع الاستثمارات طويلة الأمد، فيما يزيد الغموض السياسي والمؤسسي الأمور تعقيداً، إذ غالباً ما تُطلق المشاريع الكبرى من دون شفافية في العطاءات، على نحو لا يلبي توقعات المستثمرين الكبار.
تضيف العقوبات والعزلة المالية طبقة أخرى من التعقيد. فرغم تخفيف جزئي لقانون قيصر، فإن معظم آثاره لا تزال قائمة، ما يحافظ على بيئة من عدم اليقين القانوني والمالي (انظر: المرصد الشهري للعقوبات على سوريا الذي اطلقناه حديثاً). كما تبقى المصارف المحلية معزولة عن النظام المالي العالمي، ما يجعل التحويلات العابرة للحدود وتدفقات رأس المال شديدة الصعوبة.
إلى جانب ذلك، فإن حجم الاستثمارات المعلنة تتجاوز بكثير القدرة الاقتصادية الكامنة لسوريا. و للمقارنة: بلغ مجموع الإنفاق الاستثماري الحكومي بين عامي 2010 و2024 نحو 16.6 مليار دولار فقط، أي أقل بكثير من قيمة المذكرات المعلنة (25.4 مليار دولار). أما الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI)، فلا تتوفر بيانات عنه سوى لعامي 2010 و2011، ومن المرجح أنه كان هامشياً في السنوات اللاحقة نظراً للظروف الاقتصادية المتدهورة، وبالتالي فإن قيمته ضئيلة جداً مقارنة بما أُعلن حديثاً.
ويثير هذا التفاوت الصارخ تساؤلات جدية حول ما إذا كانت المؤسسات والقدرات المالية السورية قادرة على استيعاب وإدارة مشاريع بهذا الحجم، لا سيما بعد سنوات من تقلّص الموازنات واستنزاف موارد الدولة. ومع ذلك، لو كُتب لهذه الاتفاقيات أن تتحقق، فإنها ستكون ذات أثر اقتصادي مباشر. فبحسب بيانات البنك الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لسوريا عام 2023 نحو 20 مليار دولار فقط.
آفاق المرحلة المقبلة
توقيع هذه المذكرات يعكس توجهاً سياسياً واضحاً، ولا سيما من جانب السعودية وقطر، وتقع المسؤولية مباشرة على عاتق الحكومة السورية. فالخطوات المقبلة التي ستتخذها ستكون حاسمة—سواء في دفع هذه الاتفاقيات إلى الأمام أو في تشكيل انطباع المستثمرين والحكومات الأجنبية حول جدّيتها في السعي نحو التعافي.
يمكن للانخراط الدولي أن يضيف وزناً حقيقياً إذا ما أسهم في تعزيز القدرات التنظيمية، وتوضيح الأطر القانونية، وتقليص حالة عدم اليقين لدى المستثمرين. كما يتعيّن على صانعي السياسات الدوليين إدراك أن مسار التحول في سوريا سيكون متعرجاً وغير متساوٍ. ومع ذلك، فإن الإشارات المبكرة المشروطة بالدعم—المستندة إلى المساءلة والشمولية—قد تساهم في توجيه الإصلاحات نحو تعافٍ واسع النطاق، بدلاً من مكاسب قصيرة الأمد ومحدودة.



