تجميد الودائع المصرفية وصعود السوق الموازية
بعد أربعة عشر عاماً من النزاع والعقوبات الدولية المشددة، وصل القطاع المصرفي والمالي في سوريا إلى حافة الانهيار. ولم يؤدِّ سقوط نظام الأسد إلى انفراج، بل كشف عن طبقات جديدة من الهشاشة.
في شباط 2025، فرض مصرف سوريا المركزي قيوداً صارمة على السحوبات النقدية. حيث سُمح للمودعين بسحب 200 ألف ليرة (نحو 20 دولار) لكل عملية أسبوعياً، ثم رُفع في مطلع آب إلى 600 ألف ليرة (60 دولار). وفي 14 آب، رفع المصرف التجاري السوري سقف السحب اليومي عبر أجهزة نقاط البيع في الفروع إلى مليون ليرة (100 دولار تقريباً). جمدت هذه الإجراءات الودائع فعلياً، ومنعت الأسر من تلبية احتياجاتها اليومية والشركات من تغطية تكاليف التشغيل، في حين واصلت المصارف تسجيل أرصدة ورقية كبيرة.
بحسب تقارير مالية سنوية قام فريقنا بمراجعتها، بلغت ودائع العملاء في المصارف الخاصة السورية (بالليرة وما يعادلها بالعملات الأجنبية) 23.5 تريليون ليرة (1.7 مليار دولار) مع نهاية عام 2024. وأظهرت بيانات المكتب المركزي للإحصاء أن ودائع العملاء في المصرف التجاري السوري بلغت 2.6 تريليون ليرة (151.5 مليون دولار) بنهاية 2022، مقارنة بـ 5.6 تريليون ليرة (326.5 مليون دولار) في المصارف الخاصة للعام نفسه.
لكن معظم هذه الأموال بقيت بحوزة المصرف المركزي الذي حجب السيولة عن المصارف التجارية، ما جعل الودائع غير قابلة للصرف. لم يوضح المركزي أسبابه، فيما أقر مسؤولون ومصرفيون في لقاءات ثنائية مع فريقنا، بعدم توفر سيولة كافية في خزائن البنك. في الوقت نفسه أكد المحافظ عبد القادر حصرية في مقابلة حديثة أن “نقص السيولة المحلية” يمثل تحدياً رئيسياً للاقتصاد.
بعيداً عن دوافع فرض القيود على السيولة، أدّت هذه القيود إلى نشوء ما يُعرف بـ “سوق الأرصدة المصرفية”، حيث يبيع مودعون يائسون أرصدتهم شبه المجمّدة بخصومات كبيرة لتجار يملكون سيولة، يستفيدون بدورهم من استثناءات أو يسحبون تلك الأرصدة تدريجياً. هذه الأسواق ليست جديدة؛ فقد ظهرت في أزمات سابقة مثل “اللولار” أي الدولار المصرفي في لبنان عام 2019، و”الكوراليطو” في الأرجنتين عام 2001–2002.
خسارة المال لمتابعة الأعمال
توضح تجربة أبو محمد الحمصي، تاجر أحبار معروف في دمشق، آلية نظام حسم الأرصدة المصرفية. قال في حديثه لفريقنا أن معظم المؤسسات الحكومية حدّثت طابعاتها مطلع 2025، ما جعل مخزونه من أحبار النماذج القديمة عديم القيمة تقريباً. للاستمرار بعمله كان بحاجة ملحّة لاستيراد مخزون حديث. المال لم يكن المشكلة: امتلك رصيداً مصرفياً قدره 700 مليون ليرة (نحو 70 ألف دولار حينها)، لكن القيود على السحب سمحت له بالوصول إلى جزء بسيط منه شهرياً فقط.
قال: «كان لدي مال على الورق، لكن لا أستطيع تحريكه فعلياً. السوق لا ينتظر، والفرص تضيع إن لم تتحرك بسرعة».
خشية خسارة زبائنه، لجأ إلى حل أصبح شائعاً بين التجار: بيع رصيده المصرفي بخصم. بعد تفاوض، وافق على حسم 25%من أصل 700 مليون ليرة، حصل على 525 مليوناً (52,500 دولار) نقداً، متخلياً عن 175 مليوناً (17,500 دولار)، كانت خسارة مؤلمة لكنها سمحت له باستيراد الأحبار فوراً والحفاظ على علاقاته التجارية.
قصة أبو كريم، تاجر جرانيت دمشقي، تشرح سبب ازدهار هذه السوق. بالنسبة إليه، الأرصدة المجمّدة فرصة استثمارية مربحة لا عبء. قال: “كل رصيد أشتريه يمنحني عائداً لا أجده في مكان آخر”. في إحدى الصفقات، دفع لمودِع 208 ملايين ليرة (20,800 دولار حينها) مقابل رصيد مجمّد قدره 260 مليوناً (26,000 دولار). ثم حصل على استثناء من المصرف المركزي بدفع رسم 5% بلغ 13 مليون ليرة (1,300 دولار). رفض أبو كريم توضيح كيفية حصوله على الاستثناء، ولم نتمكن من تأكيد ذلك من مصادر أخرى. بعد الإفراج عن كامل المبلغ، حقق ربحاً صافياً قدره 39 مليون ليرة (3,900 دولار) أي عائد 18%.
قصص أبو محمد وأبو كريم ليست استثناءً. في أنحاء البلاد، تضطر الأسر والشركات الصغيرة ذات الحاجة الملحّة للسيولة إلى بيع ودائعها بخسائر كبيرة. هذا يعمّق الفجوة بين القادرين على تحمّل الخسائر وغير القادرين، ويزيد انعدام الثقة في المصارف. قال مصرفيون في دمشق لفريقنا إن تجميد الأرصدة وشح السيولة يخنقان الاستهلاك والتجارة والتعافي الاقتصادي، و يعيدان تشكيل نظرة السوريين للقطاع المصرفي.
ويزداد الأمر سوءاً حين نرى أن هذا العبء يقع على عاتق البعض دون الآخر. فوفقاً لقواعد المصرف المركزي الحالية، تقتصر حرية السحب على الودائع التي تمت بعد 7 أيار 2025. وبهذا، يجد قدامى المودعين أنفسهم محرومين من أموالهم، بينما ينعم أصحاب رؤوس الأموال الجديدة والعائدون بسيولة وفرص استثنائية. قد يمنح هذا الترتيب النظام المصرفي جرعة من السيولة، لكنه يخلق شعورًا بالمظلومية لدى المودعين القدامى، ويهدد بتحويل إجراءٍ كان من المفترض أن يكون مؤقتاً إلى مصدر دائم للظلم والتوتر الاجتماعي.
البحث عن بدائل
بحثاً عن بدائل لسحب الأموال من المصارف، اتجه بعض السوريين إلى «شام كاش»، وهي محفظة إلكترونية ألزمت وزارة المالية باستخدامها كأحد الوسائل لصرف رواتب القطاع العام. توسعت الخدمة بشكل كبير منذ سقوط نظام الأسد رغم غياب ترخيص تنظيمي واضح. توفر شام كاش سحوبات نقدية غير محدودة عبر وكلاء حوالة مثل «الفؤاد» و«الهرم»، إلا أنها محفوفة بالمخاطر: تعمل خارج متاجر التطبيقات الرسمية، بلا رقابة تنظيمية، تجمع بيانات حساسة بلا حماية، وتلتف على النظام المصرفي. من دون إشراف، تمنح «شام كاش» المشغّلين القدرة على مراقبة المعاملات، تتبع مواقع المستخدمين ونمط إنفاقهم، وتجميد الحسابات أو تقييدها، بل تتيح إساءة استخدامها سياسياً لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين.
الحاجة إلى الدعم الدولي
تجميد الودائع وتآكل الثقة في المصارف وعدم المساواة في الوصول إلى الأموال يهدد التعافي الاقتصادي الهش. تقع قرارات إعادة المساواة في التعامل مع الودائع وتخفيف قيود السحب على عاتق المصرف المركزي والسلطات الانتقالية، لكن يمكن للشركاء الخارجيين المساهمة بربط أي دعم مالي بالتقدم في ضمان الوصول العادل، وتقديم تعاون تقني غير مشروط لبناء المؤسسات والاستفادة من تجارب اقتصادات ما بعد النزاعات.
تشكل «هيئة ضمان الودائع»، التي أُنشئت في آب 2025، مدخلاً مباشراً للدعم، إذ تعتمد مصداقيتها على الخبرة محاسبي التأمين والاحتياطيات والحوكمة. يمكن للمانحين توفير تمويل تأسيسي وضمانات وتدريب وبناء أنظمة تقنية.
كما أن الشفافية والدفع الرقمي الآمن عنصران أساسيان لاستعادة الثقة، ورغم أن نشر بيانات السيولة يظل قراراً بيد السلطات، يمكن للمانحين والشركاء دعم تطوير أدوات إعداد التقارير وبناء القدرات، وتأسيس منصات دفع منظمة بالشراكة مع شركات الاتصالات والتكنولوجيا المالية، لتوفير بديل آمن عن محافظ غير شفافة مثل “شام كاش”.
