من الانتعاش إلى الانكماش: تطور تنظيم داعش بعد سقوط الأسد
عندما سقط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، كان تنظيم داعش يقترب من إتمام عامه الأول من عودة أنشطته المستمرة في سوريا منذ هزيمته الميدانية مطلع عام 2019. فبين 1 كانون الثاني و1 كانون الأول، نفذ التنظيم ما لا يقل عن 660 هجوماً في أنحاء سوريا، بمعدل 60 هجوماً شهرياً، وذلك وفق بيانات Syria Weekly. وقد شكّل هذا المعدل ثلاثة أضعاف هجمات عام 2023، لكن اللافت لم يكن فقط في الكم، بل في تزايد الثقة والقدرة العملياتية للتنظيم.
طوال عام 2024، كثّفت داعش استخدام العبوات الناسفة—بما في ذلك السيارات المفخخة—وزاد عدد المقاتلين المشاركين في الهجمات، ما عكس استعداداً أعلى لتحمّل الخسائر، وبالتالي مؤشراً على تنامي قدرته على التجنيد. كما صعّد من هجماته المباشرة على مواقع ثابتة للخصوم. وأعاد تشغيل شبكات الجباية والزكاة المعهودة لديه، حيث استهدف أصحاب الأعمال الذين رفضوا دفع “الضرائب”، في إشارة إلى عمق تغلغله داخل بعض المجتمعات، ولا سيما في دير الزور.
لكن رغم هذا الانتعاش، شكّل سقوط نظام الأسد صدمة لهيكل التنظيم. فبعد سنوات اعتمد فيها على استغلال اليأس والانقسام الطائفي والعرقي لتبرير وجوده وتغذية تجنيده، وجد نفسه أمام واقع جديد؛ إذ قدّم تشكيل الحكومة الانتقالية مساراً سياسياً ومؤسساتياً لمشاركة العرب السنّة، ما هدد الأسس الفكرية التي بنى عليها التنظيم شرعيته.
وبالتالي، بين 1 كانون الثاني 2024 و1 نيسان 2025، انخفضت وتيرة هجمات داعش إلى معدل 10 هجمات شهرياً فقط، وتراجعت حصيلة القتلى إلى وفاة واحدة شهرياً، بعد أن بلغت 63 وفاة شهرياً في عام 2024. وفي هذه المرحلة من الركود النسبي، يبدو أن التنظيم أعاد تنظيم صفوفه، إذ عادت الهجمات وعدد القتلى للارتفاع تدريجياً من أيار ثم مجدداً بين تموز وأيلول.
في سوريا ما بعد الأسد، حافظ داعش على مسارين متوازيين: تمرد مسلح في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي، وحملة إرهاب حضري في مناطق سيطرة الحكومة. فبين 1 كانون الثاني و1 تشرين الأول، وقعت 89% من أصل 237 هجوماً مسجلاً في مناطق قسد. وعلى الرغم من أن معظم هذه الهجمات نُفذت بأسلحة خفيفة مثل البنادق وقاذفات الـRPG، استخدم التنظيم سبع عبوات ناسفة وأربع سترات انتحارية بين 1 آب وأواخر أيلول. ويشير ذلك إلى احتفاظه بإمكانية الوصول إلى المتفجرات، والخبرة الفنية لتصنيعها، وبالحرية الكافية لنقلها واستخدامها. وهي مؤشرات كلاسيكية على تصاعد قدرة التمرد وتنظيمه.
وبما أن نحو 90% من هجمات التنظيم تقع في مناطق قسد، فإنها تمثل هدفه الرئيسي. فقسد—التي تُعد على نطاق واسع قوة ذات قيادة وهوية كردية—تشكل هدفاً مثالياً لداعش، إذ يراها فرصة لإعادة إشعال التوترات العرقية والطائفية التي يستغلها لتوسيع الفوضى. ويبرز هذا الواقع من منظور أمني كسبب أساسي يجعل دمج قسد ضمن مؤسسات الدولة خطوة حيوية لتحقيق هزيمة استراتيجية حقيقية للتنظيم داخل الأراضي السورية.
تُعد دير الزور مركز الثقل الرئيسي لعمليات داعش، إذ سجلت 76% من هجماته عام 2025 (185 من أصل 244 هجوماً). وفي عام 2024، ركّز التنظيم على استهداف شاحنات النفط داخل مناطق قسد وخارجها، لكن تلك الهجمات تراجعت في 2025 لتشكّل 7% فقط من الإجمالي حتى الآن.
أما المؤشر الأخطر في عام 2025 فهو ارتفاع معدل فتك الهجمات في الأسابيع الأخيرة. فمنذ 1 كانون الثاني حتى 29 أيلول، أسفرت 78 هجمة عن سقوط قتيل واحد على الأقل. ومن بين هذه الهجمات، وقعت 35 (45%) بين كانون الثاني وتموز، فيما وقعت 43 (55%) بين 1 آب و20 تشرين الأول، وحدث 37% منها خلال الأسابيع الستة الأخيرة وحدها. وتشير هذه الأرقام إلى زيادة ملموسة وحديثة في قدرة التنظيم على تنفيذ هجمات قاتلة من حيث الأهداف والتسليح والاستخبارات والاستعداد لتحمّل الخسائر.
إلى جانب العمليات، أفادت مصادر رفيعة في وزارة الداخلية السورية لسوريا بالأرقام بأن أجهزة الأمن أحبطت 13 مخططاً كبيراً كان يمكن أن يخلّف خسائر جماعية، استهدف مواقع دينية للأقليات وعودة اللاجئين والتجمعات العامة خلال الأعياد. وتم ذلك بفضل تعاون استخباراتي مع الولايات المتحدة وحلفاء إقليميين.
نجاح دمشق في إحباط جميع هذه المخططات تقريباً—باستثناء تفجير انتحاري نفذه عنصر مرتبط بداعش وأودى بحياة 30 شخصاً في كنيسة مار إلياس قرب دمشق في 22 حزيران—يُظهر عمق اختراق الوزارة لشبكات التنظيم. ويُعزى ذلك جزئياً إلى خبرة وزير الداخلية أنس خطاب، الذي قاد هزيمة “هيئة تحرير الشام” لخلایا داعش والموالين للقاعدة في إدلب بين 2018 و2024. كما يُعزى إلى تطور التعاون الاستخباراتي والعسكري بين سوريا والولايات المتحدة، الذي يتم حالياً عبر قنوات سرية مع وزارة الداخلية، ومن المتوقع أن يتوسع عسكرياً على إثر زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية، الأدميرال برادلي كوبر، إلى دمشق في 12 أيلول. وتستمر المباحثات لضمّ سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش.
سيكون لهذه الشراكة الأمنية الثنائية الناشئة دور حاسم في رسم المرحلة التالية من مكافحة التنظيم في سوريا. فحقيقة أن داعش استعاد نشاطه عام 2024 في مناطق قسد والنظام ثم انحصر مجدداً في مناطق قسد بعد سقوط الأسد تحمل دلالة تحليلية واضحة. فإذا كان القضاء النهائي على التنظيم ممكناً، فلن يتحقق عبر جبهات منقسمة داخل البلاد، بل من خلال توحيد الجهود ضمن دولة سورية واحدة.
فرغم بطولات قسد وتضحياتها، فإن قيادتها الكردية وأيديولوجيتها العلمانية لا تشكل تحدياً فكرياً أو اجتماعياً قادراً على سحب البساط من التنظيم. وحدها سوريا موحدة، بحكومة انتقالية أوسع تمثيلاً وأكثر شمولاً، يمكن أن تشكل بديلاً مشروعاً وجاذباً. ومن ثم، فإن كسر الجمود في المفاوضات بين دمشق وقسد والتوصل إلى اتفاق يضمن حل الإدارة الذاتية ودمج قواتها ومؤسساتها ضمن الدولة يُعد أمراً أساسياً لتحقيق استقرار مستدام وهزيمة استراتيجية لداعش.

