إحياء شبكة الغاز في سوريا
تُشكّل خطوط النفط والغاز العمود الفقري لقطاع الطاقة في سوريا، إذ تربط حقول الإنتاج الأولية بمنشآت التكرير والتوزيع والتصدير. وقبل اندلاع الحرب، سعت الحكومة السورية إلى تنفيذ مشاريع لتعزيز الشبكة وترسيخ موقع سوريا كمركز عبور إقليمي، لكن انعدام الأمن والأضرار الواسعة التي لحقت بالبنية التحتية خلال الحرب أوقفا تلك الخطط. وفي مرحلة ما بعد الأسد، بدأت السلطات الجديدة بإعادة تأهيل المنظومة، إدراكًا منها لأهمية وجود شبكة تمتد لأكثر من 2,500 كيلومتر من خطوط النقل التي توصل الغاز المعالج الجاهز للاستخدام إلى محطات توليد الكهرباء وغيرها من الاحتياجات المحلية، بما في ذلك الصناعة والمنازل.
وتشمل هذه المنظومة شبكة تجميع بطول يتجاوز 2,200 كيلومتر تربط آبار الإنتاج بمحطات التجميع والضغط، وتدار جميعها من خلال “المركز الوطني لتنسيق الغاز”. وتدعم الشبكة أكثر من ست منشآت للمعالجة. وتشكل هذه الأجزاء معًا إطارًا متكاملاً لإنتاج الغاز ومعالجته وتوزيعه في جميع أنحاء البلاد. كما يجدر التذكير بأن سوريا طوّرت بنية تحتية جيدة للنفط والغاز بدعم دولي، وكانت جودة البنية التحتية في عام 2011 قريبة من المتوسط العالمي، بمعدل 3.3 من 7 بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي. ووجود شبكة عاملة وفعالة عنصرًا أساسيًا للتعافي الاقتصادي وإعادة الاندماج في التجارة الإقليمية.
يركّز هذا المقال على شبكة خطوط الغاز، على أن يتناول مقال لاحق في الأعداد المقبلة المشاريع الإقليمية المخطط لها، فيما يتطرق مقال آخر إلى أنابيب النفط.
خريطة خطوط الغاز
تضم سوريا شبكة واسعة من خطوط الغاز الطبيعي داخل البلاد.
تتركز معظم احتياطيات الغاز الطبيعي في سوريا في المناطق الوسطى والشرقية. وقدّر آخر تقييم رسمي عام 2011 الاحتياطي بـ 285 مليار متر مكعب، إلا أن تقديراتنا تشير إلى أن الإنتاج منذ ذلك الوقت خفّض الاحتياطي البري المؤكد إلى نحو 231 مليار متر مكعب. وفي الفترة نفسها، قُدّر الاحتياطي البحري المحتمل بنحو 170 مليار متر مكعب، في حين أعلنت السلطات السابقة عن اكتشافين صغيرين على اليابسة: دير عطية عام 2019 باحتياطي 500 متر مكعب فقط، وزملة المهر عام 2022 من دون الإعلان عن حجم الاحتياطي.
وقبيل اشتداد الحرب عام 2012، بلغ إنتاج سوريا الخام من الغاز ذروته التاريخية عند نحو 30 مليون متر مكعب يوميًا في عام 2011. وتم آنذاك حرق أو تنفيس أو إعادة حقن نحو 9 في المئة من الإنتاج للحفاظ على ضغط الآبار النفطية. وبحلول عام 2024، تراجع الإنتاج إلى نحو 7.4 ملايين متر مكعب يوميًا، بينما أنتجت الحقول الخاضعة لسيطرة “قسد” في شمال شرق البلاد نحو مليون متر مكعب إضافي. وتشير بيانات عام 2023 إلى أن أكثر من نصف إمدادات الغاز الإجمالية استُخدمت في توليد الكهرباء.
أدى التحول نحو توليد الكهرباء بالغاز بعد عام 2005 إلى ارتفاع الطلب إلى مستويات تفوق الإنتاج المحلي، ما جعل سوريا مستوردًا صافياً للغاز بحلول عام 2008. وأتاح “خط الغاز العربي” تزويد سوريا بالغاز المصري حتى عام 2011، حين أدت الهجمات المتكررة في سيناء وتراجع الإنتاج في مصر إلى توقف الضخ. وخلال سنوات عمله الأربع، استوردت دمشق نحو 1.44 مليون متر مكعب يوميًا في المتوسط.
يُعد خط الغاز العربي أحد أبرز مشاريع البنية التحتية في المنطقة، ويمتد لنحو 1,330 كيلومترًا عبر مصر والأردن وسوريا ولبنان، مع طموحات طويلة الأمد لربطه بتركيا والأسواق الأوروبية، خصوصًا بعد اهتمام العراق بالانضمام ودعم الإمدادات.
بُني الخط على أربع مراحل بكلفة تقارب 1.2 مليار دولار. ويمتد القسم السوري، الذي يزيد طوله قليلًا على 600 كيلومتر، من جابر مروراً بحمص ثم إلى حلب قبل أن يدخل تركيا، مع فرع يتجه نحو لبنان. اكتملت جميع المقاطع داخل سوريا باستثناء 240 كيلومترًا بين حمص وحلب. أما مقطع حلب–كلّس، الذي كان من المفترض إنجازه مطلع 2011، فلم يكتمل حتى أيار 2025.
مثّل وصول الغاز عبر الخط بداية مرحلة سعت فيها سوريا إلى موازنة الإنتاج المحلي مع الواردات وإيرادات العبور. وبعد سنوات من التعطيل – الناتج عن الحرب والتخريب وعدم الاستقرار السياسي– نُفذت أعمال صيانة لإعادة تشغيل الشبكة. وفي 11 أيلول 2021، أعلن وزير النفط السابق بسام طعمة إصلاح كامل القسم السوري بين الأردن وحمص واستعداده لنقل الغاز المصري إلى لبنان.
اليوم، يربط الخط سوريا بالشبكة الإقليمية، وإن كانت التدفقات تجري من الشمال إلى الجنوب بدلًا من العكس (من مصر لسوريا). وفي آب 2025، بدأت تركيا تزويد سوريا بالغاز الأذري عبر مقطع كلّس–حلب الجديد بطول 93 كيلومترًا، الذي يرتبط بـ “خط الغاز الطبيعي الجنوبي” التركي ثم بـ “خط الأناضول العابر للغاز” (TANAP). يضخ TANAP حاليًا نحو 3.4 ملايين متر مكعب يوميًا، مع خطط لزيادتها إلى 6 ملايين. وفي أواخر آب، وقّعت وزارة الطاقة السورية اتفاقًا إضافيًا مع شركة “نقّاش هولدينغ” التركية لتوريد 1.6 مليون متر مكعب يوميًا ضمن جهود الالتزام بالكميات المتفق عليها مع “سوكار” الأذرية و”بوتاش” التركية.
تموّل قطر هذه الإمدادات المخصصة لتشغيل محطات الكهرباء في حلب وتشرين وجندر، لتوليد ما بين 750 و900 ميغاواط ساعي، أي ما يعادل أربع إلى ست ساعات إضافية من الكهرباء، وفق الشركة السورية للغاز.
وفي ترتيبات منفصلة، أُعيد تشغيل القسم الجنوبي من الخط في آذار 2025 حين موّلت قطر واردات الغاز الطبيعي المسال عبر ميناء العقبة الأردني لتزويد محطة دير علي لمدة 50 يومًا بمتوسط نحو مليوني متر مكعب يوميًا. وصلت ناقلات الغاز إلى العقبة، حيث جرى تحويل الغاز المسال ثم ضخه عبر الخط إلى مقطع دير علي جنوب دمشق، ما دعم توليد نحو 400 ميغاواط ساعي يوميًا. وأعلن وزير الطاقة الأردني صالح الخرابشة أن التمويل جاء بالكامل من صندوق قطر للتنمية. وانتهى البرنامج مع انتهاء المنحة البالغة نحو 63.75 مليون دولار، لتتحول قطر بعدها إلى دعم مسار كلّس–حلب.
يشكّل إحياء شبكة الغاز في سوريا خطوة محورية لإعادة تأهيل منظومة الطاقة وتقليص فجوة الإمدادات. ويشير استئناف الاتصال عبر خط الغاز العربي والاتفاقيات الجديدة إلى عودة تدريجية للتعاون الإقليمي، وهو أمر أساسي لاستقرار الكهرباء ودعم التعافي الصناعي. لكن النجاح طويل الأمد سيعتمد على استمرار الاستثمار، وتأمين المسارات الحيوية، والتنسيق مع جهات مثل “قسد”، والحد من المخاطر المرتبطة بتنظيم داعش.

