رسم خريطة مذكرات التفاهم في سوريا: تغيّر في أولويات الاستثمار
يُعاد تشكيل مشهد الاستثمار في سوريا بعد أكثر من عقد من العزلة. وتشير عشرات مذكرات التفاهم الجديدة—التي يقود جزء كبير منها مستثمرون من الخليج وتركيا—إلى بروز فلسفة اقتصادية جديد. ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في هذا التغيّر، فمعظم الالتزامات لا تزال ضمن مذكرات تفاهم، ولم يصل إلى مرحلة التنفيذ سوى عدد قليل جداً.
وبناءً على تحليلنا السابق لقيم هذه المذكرات، وهياكل الملكية، ومخاطر التنفيذ، يتناول هذا المقال البعد الجيوسياسي لموجة الاستثمار الجديدة. ويقارن بين أنماط الانخراط الأجنبي قبل وبعد مرحلة الأسد، ليُظهر ليس فقط من يستثمر، بل كيف يتم الاستثمار، وما يكشفه ذلك عن المشهد الاقتصادي المتغيّر في سوريا.
رصد الاستثمارات الجديدة: توزع جغرافي متنوّع
استنادًا إلى مراجعتنا لـ40 مذكرة تفاهم، تبلغ القيم المُعلنة لهذه الاتفاقيات نحو 25.9 مليار دولار—وهو رقم يقل قليلًا عن 28 مليار دولار التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع خلال مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض، وهو فارق طبيعي بسبب عدم الكشف عن قيمة بعض المذكرات.
ويكشف التوزع الجغرافي عن تغيّر خريطة النفوذ في سوريا. ويتصدر الفاعلون الخليجيون المشهد حاليًا: تقود السعودية عدد المذكرات الموقّعة وتأتي ثانيةً في القيمة، إذ وقّعت شركات سعودية مذكرات بقيمة 6.4 مليارات دولار خلال “منتدى الاستثمار السوري–السعودي”. وتأتي الإمارات بعدها بأربع شركات، رغم أن شركة واحدة فقط كشفت قيمتها، مشروع “مترو دمشق” البالغ ملياري دولار بالتعاون مع شركة “الوطنية”. وتأتي الكويت بعد ذلك بثلاث شركات، بلغت قيمة اثنتان منها 1.1 مليار دولار، بينما لم يُكشف عن قيمة مشروع “بوليفارد حمص”.
ويتخذ الحضور القطري مسارًا مختلفًا، تقوده شراكة قطرية–تركية–أمريكية بقيادة شركة UCC Holding، التي وقّعت مذكرتين بقيمة 11 مليار دولار، أي نحو 43 في المئة من إجمالي الاستثمار المُعلن هذا العام. وتشمل المجموعة شركة Power International Holding المرتبطة بالولايات المتحدة، ما يشير إلى بنية مالية–لوجستية أكثر من كونها شراكة متعددة الجنسيات. كما وقّعت شركة Classera الأمريكية (في مجال التعليم الرقمي) اتفاقيات استراتيجية في آب 2025 مع وزارات الاتصالات والتربية والصحة في سوريا.
ووقّعت عدة شركات سورية مذكرات تفاهم أيضاً، لكن غموض هياكل ملكيتها وضعف الحوكمة يطرحان تساؤلات حول كون هذه الاتفاقيات استثمارات حقيقية أم مجرد التزامات شكلية.
تحولات في نماذج الاستثمار: مقارنة بين القطاعات
تشهد فلسفة الاستثمار في سوريا تحوّلاً نوعيًا. إذ يتراجع نموذج الانخراط الأجنبي الذي ساد خلال الحرب—القائم على استخراج الموارد واستغلال النفوذ السياسي—ليحل محله نمط من الشراكات الاقتصادية والتنموية الأكثر توازنًا، المرتبطة ببناء القدرات المحلية، وتعزيز المؤسسات، وانفتاح سوريا على دول إقليمية.
يمثّل قطاع الفوسفات تحت حكم الأسد نموذجًا للنهج السابق. فقد انصب تركيز المشاريع المدعومة من شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية الخاضعة للعقوبات على استخراج المواد الخام وتصديرها ضمن صيغة غير عادلة لتقاسم العائدات، إذ حصل الجانب الروسي على 70 في المئة من الأرباح. وللمقارنة، يشير صندوق النقد الدولي إلى أن الحكومات تحصل غالبًا على 50–70 في المئة من العوائد في القطاعات الاستخراجية، ما يجعل حصة سوريا البالغة 30 في المئة أقل بكثير من الممارسات العالمية. ومع الانتقال السياسي، لا يزال مصير عقود الفوسفات غير واضح.
في المقابل، تعكس المقترحات المرتبطة بالسعودية—خصوصاً تلك المرتبطة بصندوق “إيلاف“—والالتزامات الإماراتية نهجًا مختلفًا تمامًا. إذ تركز التصريحات الرسمية على تطوير سلاسل قيمة كاملة، تشمل إنتاج الأسمدة محليًا ونقل التكنولوجيا من شركات مثل “معادن” السعودية. وبالمثل، يُعد منح إدارة مرفأ طرطوس لشركة “موانئ دبي العالمية”—التي بدأت تشغيله في منتصف تشرين الثاني 2025—إشارة إيجابية، نظراً لكون الشركة مشغّلاً عالميًا ذا سجلّ قوي في تطوير الموانئ.
ويظهر التباين بوضوح في قطاع الطاقة. فقد عملت شركات مثل Evro Polis خلال الحرب وفق ترتيبات منحتها 25 في المئة من عائدات حقول سيطرت عليها مجموعة فاغنر، في نموذج يعتمد عمليًا على تبادل الدعم العسكري مقابل حقوق الإنتاج. وأدى خضوع الشركة للعقوبات الدولية إلى عزل سوريا أكثر عن الأسواق العالمية. أما اليوم، فتشير الإعلانات الجديدة إلى احتمال التحول نحو نماذج أقل استخراجًا وأكثر استدامة. ووقّعت شركة ACWA Power السعودية مذكرة لتطوير ما يصل إلى 2.5 غيغاواط من الطاقة المتجددة، ضمن إطار يركز على نقل التكنولوجيا وتدريب العمالة.
ويظهر التحول نفسه في قطاع الاتصالات. فشركة “وفا تليكوم“، التي مُنحت الترخيص عام 2022 كمشغّل ثالث، قُدمت على أنها شركة محلية، لكن تحقيقات أجراها “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” و “OCCRP” كشفت ارتباطات ملكيتها بالحرس الثوري الإيراني، ما جعل المشروع أقرب إلى تسوية ديون وتعزيز نفوذ سياسي منه إلى استثمار تجاري. وعلى النقيض، ركزت الشركات السعودية مثل GO Telecom وSTC اتفاقياتها، البالغة نحو 1.1 مليار دولار، على تطوير بنية الاتصالات الأساسية: البنية الرقمية، وتوسعة الألياف الضوئية، والأمن السيبراني، والبنية التحتية لمراكز البيانات.
نظرة مقبلة
لا يتجه مشهد الاستثمار في سوريا من المصلحة الذاتية نحو الإيثار، بل يتحول من نموذج نفوذ قائم على ضغوطات الحرب إلى نفوذ قائم على السوق. ولا يزال المستثمرون الخليجيون والأتراك يسعون إلى أهداف استراتيجية وتجارية، لكنهم يفعلون ذلك عبر أدوات ترتبط بالربحية، والتكامل الإقليمي، والسمعة، بدلاً من الدعم العسكري أو مقايضات الديون.
وسيعتمد استمرار هذا التحول على الإطار التنظيمي الذي يحكم هذه الاستثمارات أكثر مما يعتمد على هوية المستثمر. ويتطلب مناخ استثماري موثوق إعادة النظر في العقود الروسية والإيرانية الموروثة—التي تفتقر كثير منها إلى الشفافية أو تقاسم عادل للعائدات—وضمان أن تلتزم الاتفاقيات المستقبلية بمعايير قانونية واقتصادية واضحة.

