رسم خريطة مذكرات التفاهم في سوريا: تقييم المخاطر والمصداقية
في العدد السابق من سوريا بالأرقام، عرضنا خريطة مذكرات التفاهم الاستثمارية التي وقّعتها الحكومة السورية بعد سقوط نظام الأسد، مبيّنين توزيعها الجغرافي والقطاعي والعوائق التي تحول دون تنفيذها.
استناداً إلى ذلك التحليل، تنتقل هذه المقالة إلى التركيز على المستثمرين أنفسهم. فبعد توثيق مذكرات تفاهم تبلغ قيمتها ما لا يقل عن 25 مليار دولار أمريكي، بات من الضروري تقييم هوية الشركات الموقعة عليها، والمخاطر التشغيلية والمالية التي تطرحها. تركّز هذه المقالة على الشركات عالية المخاطر وكيف يمكن لمشاركتها أن تؤثر في مصداقية عملية إعادة إعمار سوريا.
تحليل مخاطر الشركات المستثمرة
شمل تقييمنا جميع مذكرات التفاهم الاستثمارية ذات الهدف الربحي و المذكورة رسمياً في وسائل إعلام ومصادر موثوقة. أما مذكرات التفاهم المتعلقة بمشاريع تنموية غير ربحية فاستُبعدت من التحليل .
استند التقييم إلى ثلاثة معايير:
- النضج المؤسسي: يُقاس بتاريخ التأسيس والخبرة السوقية.
- الشفافية والإفصاح: مدى توفر المعلومات العامة عن الشركة مثل المواقع الرسمية والتقارير المالية والأنشطة المعلنة.
- الحوكمة والقيادة: تُقيَّم عبر الهيكل التنظيمي والسير الذاتية للمديرين وآليات المساءلة. تحصل الشركة على نقاط أعلى كلما كانت تفاصيل القيادة وأطر الحوكمة متاحة ومثبتة علناً.
جُمعت البيانات من مواقع الشركات، و الإفصاحات المالية (عند توفرها)، و منصات التواصل الاجتماعي، والتحقيقات المستقلة، و التقارير الإعلامية الموثوقة. جرى التحقق من صحة المعلومات عبر مصادر متعددة مع التركيز على التأكد من وجود كل شركة على أرض الواقع و نشاطها الفعلي.
وُضعت لكل شركة درجات من 0 إلى 2 لكل معيار. مجموع النقاط من 0 إلى 2 يدل على مخاطر منخفضة، ومن 2 إلى 4 متوسطة، ومن 4 إلى 6 عالية. ورغم محدودية النطاق، يوفّر هذا التصنيف أساساً شفافاً وبسيطًا للمقارنة.
أظهرت النتائج أن معظم الشركات تقع ضمن فئة المخاطر المنخفضة بنسبة 67.5% من العينة، مقابل 10% متوسطة المخاطر و22.5% عالية المخاطر.
هذا التوزيع مطمئن، إذ تُظهر غالبية الموقّعين درجة معقولة من المصداقية والاستقرار المؤسسي. وتشكل الشركات القادمة من الخليج وتركيا نواة قوية من الجهات ذات السمعة الموثوقة وسجل النجاح في الأسواق الدولية. ومن الأمثلة البارزة التحالف القطري–التركي الذي يضم أربع شركات: “UCC Holding” من قطر، و”Cengiz İnşaat” و”Kalyon İnşaat” من تركيا، و”Power International Holding” المسجّلة في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من العلاقة الظاهرة بين “هيئة تحرير الشام” وعائلة الخياط—وما تثيره من تساؤلات حول الشفافية والمحاباة—برز التحالف القطري–التركي كأحد أكثر الالتزامات مصداقية على نطاق واسع في إعادة إعمار سوريا. فقد وقّع التحالف مذكرتي تفاهم مع الحكومة السورية: الأولى بقيمة 7 مليارات دولار لتطوير قطاع الطاقة، والثانية بقيمة 4 مليارات دولار لبناء مطار جديد في دمشق. وتؤكد هذه المشاريع، البالغة قيمتها الإجمالية 11 مليار دولار، الثقل المالي والرؤية الاستراتيجية لهذا التحالف، ما يجعله ركيزة أساسية في تعافي سوريا بعد الصراع. وستتناول المقالة القادمة الأبعاد الأوسع لهذه التحالفات ودورها في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي السوري من خلال خريطة جديدة لشبكات الاستثمار الأجنبي الناشئة.
يُصنَّف أكثر من خُمس هذه الشركات كشركات عالية المخاطر، ما يستدعي تدقيقا أكبر. فهذه الجهات تهدد مصداقية جهود الإعمار وتقوّض ثقة المستثمرين بإطار الاستثمار الجديد في سوريا. وتُدخل مشاركتها مخاطر كبيرة تشمل إلغاء المشاريع وتأخيرها وسوء تخصيص الموارد وضعف التنفيذ، فضلاً عن زيادة احتمالات الفساد والمحسوبية. وتؤدي هذه النتائج إلى تآكل الثقة العامة وردع المستثمرين الجادين عن المشاركة في عملية التعافي.
ولا تمتلك أي من الشركات عالية المخاطر موقعاً رسمياً. وتقتصر بصمتها الرقمية على صفحات متناثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، في حين لا أثر لستة منها إطلاقاً. ويثير هذا الغياب تساؤلات جدّية حول وجودها الفعلي وقدرتها على تنفيذ مشاريع بملايين الدولارات، مما يضع علامات استفهام حول مصداقيتها واستدامة التزاماتها.
يُظهر التحليل الجغرافي للشركات عالية المخاطر نمطاً مقلقاً: إذ تمثل الشركات السورية 55.6% من الإجمالي الشركات عالية المخاطر—ويُرجّح أن ذلك يعكس قربها من دوائر صنع القرار في دمشق.
شركات بعقود ضخمة وحقائق غائبة
يُجسد مشروع “أبراج دمشق” (بقيمة 2.5 مليار دولار) مخاطر ضعف التحقق من خلفية الشركات وغياب الشفافية في إجراءات المناقصات والإسناد الرسمي للعقود. فقد مُنح العقد لشركة “UBAKO-I S.R.L” الإيطالية التي تأسست عام 2022 برأسمال مسجّل لا يتجاوز 16 ألف يورو بوجود موظف واحد فقط. وتُظهر السجلات الرسمية أن إيراداتها لعام 2022 بلغت 209 آلاف يورو مع خسائر بقيمة 3,300 يورو. وتقتصر اختصاصات الشركة المعلنة على تركيب المصاعد وتجارة مواد البناء، وهي بعيدة تماماً عن متطلبات تنفيذ مشروع ضخم كأبراج دمشق.
تصريحات رسمية تؤكد المشكلة
يؤدي غياب آليات المناقصات التنافسية الشفافة وإجراءات الإسناد الرسمية إلى اختيار مقاولين غير مناسبين في مشاريع البنية التحتية الكبرى. ويستلزم التفاوت بين حجم المشروع وقدرة الشركة تعزيز الفحص المالي والفني للشركات قبل التعاقد. ويمكن أن تؤدي الحوكمة الضعيفة، وقصور إشراك أصحاب المصلحة، وانعدام الشفافية في اتخاذ القرار، جدوى المشاريع للخطر من خلال خلق معارضة من الأطراف المحلية بغض النظر عن كفاءة المقاول.
أقرّ وزير الاقتصاد والصناعة السوري الدكتور نضال الشعار في مقابلة صحفية حديثة بوجود مشكلات مع بعض الشركات التي وقّعت مذكرات تفاهم، مؤكداً أن “ليست كل مذكرات التفاهم تؤدي إلى عقود”، وأن الحكومة ستجري تدقيقاً وستنهي التعامل مع أي شركة “خادعة أو غير جدّية”.
وفي الوقت نفسه، ذكرت صحيفة المدن اللبنانية نقلاً عن مصادرها أن الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية السورية وجّهت بإجراء مراجعة شاملة لجميع مذكرات التفاهم الموقعة. ووفق التقرير، ستعتبر أي مذكرة لم تُترجم إلى تنفيذ فعلي قبل 13 أيلول 2025 لاغية من دون التزامات مستقبلية على الدولة. غير أن السلطات السورية لم تؤكد هذه المعلومات رسمياً.
وتثير تصريحات الوزير وهذه التقارير الصحفية أسئلة مهمة حول فعالية آليات التدقيق الحالية. فإذا كانت الحكومة، كما يؤكد الوزير، تجري فحصاً دقيقاً، فكيف وصلت شركات مثل “بوليدف” و”أوباكو” إلى مرحلة توقيع عقود بمليارات الدولارات رغم المؤشرات الواضحة على محدودية قدراتها؟
يشير هذا النمط إلى احتمال وقوع الحكومة في فخٍّ شعبوي، حيث تُعطى الأولوية للإعلان عن استثمارات أجنبية ضخمة لإظهار التعافي الاقتصادي واستعادة الثقة الدولية، من دون تدقيق كافٍ في القدرات والمصداقية الفعلية للأطراف المتعاقدة.
وتُبرز الحالة تحدياً جوهرياً أمام الحكومة السورية: تحقيق التوازن بين الحاجة الملحّة إلى جذب الاستثمار في ظل العقوبات الاقتصادية، وبين الحفاظ على معايير صارمة تضمن جودة ومصداقية الشركات المتعاقدة، مع تجنّب إغراء التركيز على الإعلانات الاستعراضية على حساب إجراءات التحقق الجاد.
نظرة مستقبلية
تواجه الحكومة السورية وضعاً معقداً: فهي بحاجة ماسة إلى استثمارات لإعادة الإعمار، لكنها تملك خيارات محدودة بين الشركات الموثوقة الراغبة في العمل ضمن الظروف الراهنة. ورغم أن هذا السياق يفسر حصول شركات صغيرة أو مشكوك في قدراتها على عقود كبيرة، فإنه لا يبرر قبول شركات لا تستوفي الحد الأدنى من المعايير المهنية المطلوبة للمشاريع الكبرى.
ينبغي على الحكومة وضع معايير واضحة ومحددة للتدقيق المسبق، تشمل التحقق من السجلات المالية والقانونية للشركات والتأكد من وجودها الفعلي وقدرتها التشغيلية. ويجب أن تفرض هذه المعايير تقديم بيانات مالية مدققة، وإثباتاً للمشاريع المنجزة، وأدلة على الخبرة الفنية المرتبطة بطبيعة الأعمال المقترحة.

