مساهمة خارجية: ديانا ريس، مديرة برنامج مبادرة الإيمان والصحة العالمية في معهد الصحة العالمية بجامعة جورجتاون
بقلم ديانا ريس، مديرة برنامج مبادرة الإيمان والصحة العالمية في معهد الصحة العالمية بجامعة جورجتاون
خلّفت أربعة عشر عاماً من الحرب واحدة من أعمق الأزمات الإنسانية وأطولها في التاريخ الحديث. ومع سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، برز واقع سياسي جديد منح الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع شعوراً عابراً بإمكانية إعادة بناء النظام الصحي المنهار وإصلاحه في آن واحد. لكن رغم التعيينات الجديدة في وزارة الصحة السورية وتوقيع اتفاقات مع شركاء دوليين، بقيت الأسس كما هي: سكان بحاجة مرتفعة، بنية تحتية مدمّرة، كادر صحي مستنزف، وفجوة تمويلية كبيرة.
يعتمد نحو 16.5 مليون سوري—أي أكثر من 70% من السكان الحاليين—على المساعدات الإنسانية، من بينهم 15.9 مليون بحاجة إلى خدمات صحية. ويظل الفقر من أبرز مسببات عدم المساواة في الصحة، إذ يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر. ويدفع ذلك معظم الأسر إلى خيارات صعبة بين تلبية حاجاتها الأساسية—كالطعام أو الكهرباء—وبين الحصول على الرعاية أو شراء الدواء. تراجع متوسط العمر المتوقع من 72 عاماً قبل الحرب إلى 60 عاماً عام 2017، أي انخفاض بمقدار 12 عاماً خلال أقل من عقد. ولا تزال الأمراض المزمنة بين أبرز أسباب الوفاة، بينما تظل خدمات الوقاية والعلاج محدودة جداً. ومن دون إصلاح شامل يعيد الثقة ويوفر إمكانية الوصول والتكلفة المقبولة، سيبقى التعافي بعيد المنال عن غالبية السوريين.
نظام صحي مجزأ
خلّف النزاع النظامَ الصحي في سوريا شديد التفتّت، مع بروز ثلاثة أنماط حوكمة متميزة خلال سنوات الحرب: مناطق كانت خاضعة للنظام، والشمال الغربي (تحت سيطرة هيئة تحرير الشام وأطراف أخرى)، والشمال الشرقي (تحت إدارة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أو روجافا).
وتعقّد إرث هذه الأنظمة الموازية جهود التنسيق واستمرارية الخدمات، خصوصاً في المناطق الريفية والمحرومة، ما أدى إلى تفشي أمراض منقولة بالمياه، وإصابات ناجمة عن الألغام، وفجوات حادة في رعاية الأمراض المزمنة والصحة النفسية ورعاية الأمومة. وتشكل الأمراض غير السارية أكثر من 70% من الوفيات في سوريا، ومع ذلك تندر المرافق التي توفر حتى الأدوية الأساسية أو خيارات العلاج لهذه الحالات.
كان التصدي لهذا التشرذم أولى وأعجل المهام أمام وزير الصحة المؤقت الدكتور مصعب نزال العلي، جراح الأعصاب الذي تولى المنصب في آذار 2025 خلفاً للدكتور ماهر الشرع، شقيق الرئيس الانتقالي، الذي شغل المنصب مؤقتاً. ورغم الجهود الجادة لإعادة تنظيم النظام الصحي، ما زالت الأولويات الإنسانية—وفي مقدمتها حجم الدمار الهائل للمرافق الطبية—تطغى على أجندة التعافي وبناء المؤسسات.
حجم الدمار
لا يزال حجم الدمار في النظام الصحي السوري كبيراً. حيث تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن 38% من المستشفيات ونحو 59% فقط من مراكز الرعاية الأولية كانت تعمل جزئياً أو خارج الخدمة بعد الأزمة. وأظهرت أبحاث أُجريت مع باحثين من جامعة جونز هوبكنز وجامعة كاليفورنيا بيركلي والجمعية الطبية السورية الأمريكية أن الهجمات على المرافق الصحية وانهيار النظام الصحي فاقما آثار الحرب على السكان. إذ لم تدمر هذه الهجمات البنية التحتية فحسب، بل قوّضت الثقة العامة، ومنعت المرضى من طلب الرعاية، وأجبرت العاملين الصحيين على اتخاذ قرارات أخلاقية مستحيلة.
ولا تزال الهجمات على القطاع الصحي مستمرة، إذ سُجّل أكثر من 30 هجوماً عام 2025، بينها مقتل 5 عاملين صحيين على الأقل، رغم تراجع العدد عن عام 2024 الذي شهد 62 هجوماً. ووقعت بعض هذه الهجمات في محافظة السويداء الجنوبية، التي شهدت تصاعداً للعنف في تموز 2025 أدى إلى أزمة إنسانية ما زالت مستمرة. وقد أظهرت استجابة الحكومة الانتقالية حجم أزمة الثقة بين السوريين ومؤسسات الدولة، بما فيها وزارة الصحة، ولا سيما بين الأقليات.
يقول الدكتور منذر الخليل، رئيس شبكة الصحة العامة السورية: “إعادة بناء الشرعية نقطة انطلاق أساسية لإعادة بناء النظام الصحي في سوريا”، مضيفاً أن “تبنّي نموذج حوكمة هجيني يجنب التطرف في المركزية أو اللامركزية هو مفتاح النجاح.”
ويستند الخليل إلى خبرته كمدير سابق لمديرية صحة إدلب، موضحاً أن تجربة الإدارة الصحية المستقلة في شمال غرب سوريا خلال الحرب تقدم دروساً مهمة، إذ حافظت الحوكمة الصحية على عملها رغم غياب الدولة. ويخلص إلى أن الصحة شأن مدني مشترك وليست أداة سياسية، وأن تحقيق توازن بين السلطة المركزية والمديريات الصحية المحلية يعزز فاعلية النظام ومصداقيته الأخلاقية.
تحدي القوى العاملة الصحية
يمثل نزيف الكوادر الطبية أحد أكبر العوائق أمام تعافي النظام الصحي. وتشير التقديرات إلى أن 70–80% من الأطباء والممرضين غادروا البلاد. وتعاني المستشفيات القائمة من نقص حاد في الكوادر والمستلزمات والمعدات. ويقيم معظم الأطباء والممرضين السوريين المؤهلين اليوم في الخارج، لا سيما في مصر وتركيا وألمانيا والمملكة المتحدة.
ومن خلال شبكة الصحة العامة السورية، أجرينا دراسة على هذه الكفاءات المهاجرة، ووجدنا صعوبات كبيرة تواجههم في معادلة الشهادات والانخراط في أنظمة الصحة في بلدان الإقامة. وهذا يبرز الحاجة إلى حوافز كبيرة تتيح إعادة دمجهم في النظام الصحي السوري.
وفي مراجعة منهجية قُدّمت إلى “لجنة لانسِت–الجامعة الأميركية في بيروت حول سوريا”، تبين أن حالات ما بعد الحرب نادراً ما نجحت في استقطاب الكوادر الطبية المهاجرة. لكن تجارب دول مثل أفغانستان وكمبوديا أظهرت أن تقييم القدرات في مرحلة مبكرة يساعد الحكومات على تصميم حوافز موجهة. ولم تُجرِ سوريا حتى الآن مسحاً مماثلاً.
وعليه، لا يُعد إصلاح النظام الصحي هدفاً تنموياً فحسب، بل شرطاً أساسياً لعودة القوى العاملة الصحية واندماجها مجدداً. فبدون مؤسسات عاملة، سيبقى المهنيون في الخارج، وسيواصل السوريون في الداخل مواجهة فجوات كارثية في الرعاية.
المرحلة الانتقالية الصحية
تعيش سوريا حالياً مرحلة “انتقالية” هشة، وهي فترة غير مستقرة بين نهاية النزاع الفعلي وبداية الإعمار، حيث تعمل الحكومة الانتقالية ومزودي الخدمات الإنسانية جنباً إلى جنب. والتحدي الفوري أمام الحكومة هو تلبية الاحتياجات الصحية العاجلة للسكان مع بناء أساس لنظام وطني مستدام يتجاوز الاستجابة الإنسانية.
وقد واجهت دول خارجة من حروب مشكلات مماثلة من تجزئة ونزوح واعتماد على المانحين، ما يوفر دروساً يمكن الاستفادة منها. أبرزها أن الانتقال الناجح تطلب استراتيجيات وطنية واضحة تربط المساعدات الإنسانية بأولويات بناء الدولة.
أما الحالة السورية مختلفة نسبياً. إذ أُعيد تشكيل وزارة الصحة بسرعة تحت الحكومة الانتقالية، وجرى توقيع اتفاقات مبكرة مع منظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية مثل منظمة الصحة العالمية لضمان استقرار الخدمات. وتعرض الوزارة على موقعها الرسمي رؤية تركز على تحسين المؤشرات الصحية وتعزيز العدالة في توزيع الخدمات عبر التعاون القطاعي، غير أنه لم يُقر حتى الآن أي خطة وطنية شاملة للصحة. واقتصر التقدم على قرارات جزئية تتعلق بتعيينات أو بتوزيع الإمدادات الطبية.
والسؤال الجوهري اليوم هو ما إذا كانت هذه الرؤية ستتحول إلى نظام صحي وطني موحد يتجاوز الطابع الإسعافي إلى رعاية مزمنة ووقائية. ويتطلب ذلك عدة خطوات أساسية: إدارة العلاقة مع الشركاء الدوليين بشفافية قائمة على النتائج، وتجنب تجزئة المساعدات عبر استراتيجية وطنية موحدة، وتوازن الاستثمار بين جميع أركان النظام الصحي الستة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، ومنع نشوء نظام مزدوج يفصل بين خدمات المنظمات الدولية وخدمات الوزارة.
لذا، يجب النظر إلى هذه المرحلة لا كفترة انتظار بين الأزمة والإعمار، بل كمرحلة حاسمة تحدد ما إذا كان النظام الصحب السوري القادم سيكون أكثر عدالة وتماسكاً من أي وقت مضى.
فجوة التمويل
سيحدد نجاح أو فشل إعادة إعمار النظام الصحي السوري انعكاسات تتجاوز حدوده. ومع ذلك، تبقى بيئة التمويل حرجة، إذ لم يُغطَّ سوى 7% من أصل 566 مليون دولار مطلوبة للاستجابة الصحية الإنسانية—وهو رقم يغطي الاحتياجات الفورية فقط، لا مليارات الدولارات اللازمة لإعادة الإعمار طويلة الأمد.
ستتطلب إعادة النظام الصحي إلى مستوى ما قبل الحرب إصلاحاً واسعاً للبنية التحتية، وإنشاء سلاسل توريد طبية، وتنمية القوى العاملة، وأنظمة رقمية للمعلومات الصحية، وخدمات تخصصية. وتوصي منظمة الصحة العالمية بتخصيص 15% على الأقل من الموازنات الوطنية للصحة، وهي نسبة لا تقترب منها سوريا حالياً.
مشهد المانحين المتحوّل
تواجه تمويلات النظام الصحي السوري تهديداً نتيجة تغيّر المشهد الدولي والإقليمي للمانحين. فقد كانت الولايات المتحدة تاريخياً أكبر مانح إنساني لسوريا، لكن تخفيض تمويلها في السنوات الأخيرة أدى إلى إغلاق أكثر من 150 مرفقاً صحياً، ما أثر في 4.4 ملايين شخص عبر تسع محافظات. وجاء هذا الانخفاض في لحظة حرجة من تعافي البلاد الهش.
أما المانحون الأوروبيون والإقليميون فحافظوا على مستويات دعمهم أو زادوها قليلاً، غالباً ضمن شراكات محدودة. وما تحتاجه سوريا اليوم ليس مزيداً من نداءات التمويل القصيرة الأجل، بل انتقالاً مقصوداً نحو تمويل تنموي طويل الأمد يمكّن من بناء المؤسسات. وتبرز مؤشرات مشجعة في بعض الشراكات الصحية بين سوريا ودول خليجية مثل السعودية وقطر.
ويمكن للشتات السوري، ولا سيما الكوادر الطبية المنتشرة عالمياً، أن يشكل جزءاً أساسياً من الحل. فسياسات تتيح المشاركة عن بُعد أو مهاماً قصيرة أو برامج إرشاد مهني قد تسد الفجوة بين الاحتياجات المحلية والخبرات الدولية. وقد أبدت الوزارة انفتاحها تجاه دعم الجاليات السورية والمنظمات الدولية، لكن من شأن تعيين جهة تنسيق متخصصة بالعلاقات مع الشتات أن يعزز فاعلية هذه الجهود.
الطريق إلى الأمام
لا يكون التعافي بعد النزاعات مساراً بسيطاً. فالسنوات الأولى غالباً ما تحدد ما إذا كانت المؤسسات ستترسخ أو تنهار تحت الضغوط المتنافسة. واليوم، تقف السلطات الانتقالية السورية، بالتعاون مع الكفاءات الصحية الوطنية، عند مفترق حاسم لإعادة بناء النظام الصحي.
وتُظهر تجارب الدول الخارجة من الصراع أن الاستثمار المبكر في الصحة ليس واجباً إنسانياً فحسب، بل ركيزة لإعادة بناء الثقة والشرعية ومنع تجدد عدم الاستقرار. فالنظام الصحي الفعّال لا يقلل الوفيات والمرض فحسب، بل يعيد صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن—العقد الذي غاب عن سوريا لأكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
وإذا ما توحد دعم المانحين حول الأولويات الوطنية، واستُثمرت خبرات الشتات، وتمحور الإعمار حول العدالة والمساءلة، فإن أمام سوريا فرصة حقيقية لبناء نظام صحي أقوى وأكثر مرونة من أي وقت مضى. وكما خلص تقرير كلفة الحرب الصادر عن البنك الدولي عام 2017، فقد يكون عدد السوريين الذين لقوا حتفهم بسبب انهيار النظام الصحي أكبر من ضحايا العنف المباشر، في تذكير بأن تعافي القطاع الصحي ليس هامشياً في عملية بناء السلام، بل في صميمها.

